بيروت - لبنان

اخر الأخبار

12 أيار 2021 08:25ص عقدة باسيل.. وسقوط الجمهورية

حجم الخط
بات من المجدي والضروري، في وقت أصبح فيه لبنان على موعد مع الارتطام الكبير خلال أسابيع معدودة، ان يُدرك اللبنانيون ان ازمتهم لا تحتل أولوية على اجندات عواصم القرار الدولية أو الاقليمية.

ربط اللبنانيون بعد تكليف سعد الحريري تشكيل الحكومة في 22 تشرين أوّل عام 2020، بنتائج الانتخابات الأميركية، وبعدها باستلام الرئيس بايدن الرئاسة، ونراهم الآن يربطون مسألة تشكيل الحكومة بنتائج محادثات فيينا بين واشنطن وطهران، مع مسبحة من التفاؤل بان المفاوضات ستنتهي إلى عودة أميركا إلى الاتفاق النووي ورفع العقوبات عن إيران، مع توقع ان يؤدي هذا الانفراج إلى هبوب رياح جديدة نحو المنطقة، ونحو لبنان، وبما يسهل تشكيل حكومة لبنانية، قادرة على استعادة الدولة لمسؤولياتها والشروع بالتالي إلى تدارك الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المتهالكة.

وتذهب أطراف أخرى إلى ربط حالة التأزم التي يواجهها لبنان بأزمات المنطقة، وبالادوار التي تمارسها القوى الإقليمية الرئيسية وبعض الدول العربية، وعلى رأسها السعودية وسوريا. ويذهب هؤلاء إلى أن هناك تغييرات جذرية ستحصل سواء جرّاء التقارب السعودي - السوري، مع قرب موعد عودة سوريا إلى الجامعة العربية، أو جرّاء المفاوضات والاتصالات الجارية بين السعودية وإيران بمبادرة من رئيس الحكومة العراقية وتحت رعايته وبضمانته الشخصية.

في الواقع لا اري شخصياً ان الأزمة اللبنانية هي محط اهتمام العواصم الدولية والعربية، حيث لم نر أية مبادرات فعلية من قبل أي منها باستثناء المبادرة التي أطلقتها فرنسا على اثر «جريمة مرفأ بيروت» وانطلاقاً من حرص باريس على الحفاظ على لبنان كموطئ قدم لنفوذها في الشرق الأوسط في ظل الصراع القادم والمفتوح بين الولايات المتحدة وروسيا والصين، والذي تترجمه كل من موسكو وبكين بإنشاء قواعد بحرية وتوقيع اتفاقيات اقتصادية تمتد لعقدين أو أكثر، على غرار الاتفاقية الصينية - الإيرانية.

لا يكفي ان يكون الملف اللبناني من ضمن الأولويات الفرنسية لتنجح باريس في تمرير مشروعها الاصلاحي سواء بالاقناع كما حاول ان يفعل الرئيس ماكرون في اجتماعه مع الأفرقاء السياسيين اللبنانيين في قصر الصنوبر في أيلول 2020، أو بالتلويح بفرض عقوبات فرنسية محدودة على بعض المعرقلين كما فعل وزير الخارجية لودريان عشية سفره إلى بيروت يوم الخامس من أيّار الجاري. وان الدلائل على فشل المبادرة الفرنسية تؤكد بأنه لا يكفي لإنجاح مبادرة ماكرون ان يجتمع وزير خارجية فرنسا مع وزير خارجية الولايات المتحدة في لندن، ويكون لبنان أحد المواضيع المطروحة بينهما لتحصل المبادرة على القوة والزخم اللازمين لاقناع القوى السياسية اللبنانية والقوى الإقليمية لانجاحها والتقيد بمندرجاتها. كان يمكن في رأينا ان تحل الأزمة الراهنة لو تحولت إلى أولوية أميركية، بحيث تضطلع واشنطن بالدور الأساسي، وبالتنسيق مع فرنسا والدول العربية الخليجية بقيادة السعودية.

لكن لا بدّ ان يُدرك اللبنانيون بأن الوضع السياسي في منطقة الشرق الأوسط هو غير مرشّح ليشهد تطورات أساسية جديدة، فالموقف الأميركي من أزمات المنطقة هو أشبه ما يكون بما كان عليه في أيام باراك أوباما، حيث ستتوجه إدارة بايدن إلى حل الأولويات الأميركية الداخلية، ومن بينها أزمة «كورونا»، والتساقطات الاقتصادية الناتجة عنها. اما على الصعيد الخارجي فإن اهتماماتها تنصب على العودة إلى الاتفاق النووي. وتصحيح الأخطاء السابقة التي أدّت إلى الجفاء مع أوروبا. واضعاف حلف شمالي الأطلسي. تشكّل عملية احياء علاقات التحالف مع أوروبا أولوية بالنسبة لإدارة بايدن، اما الموقف الاستراتيجي الشامل فيجري درسه وتحضيره لمعالجة التحديات الكبرى المقبلة، مع الصين وروسيا.

كان من المفترض ان يظهر الزوار الدبلوماسيون الأميركيون قدراً أكبر من الاهتمام الأميركي بالأزمة العميقة التي يتخبّط بها لبنان، لكنه بدا واضحاً من زيارتي ديفيد شينكر وديفيد هايل بأن الاهتمام كان على موضوع ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل، والبحث عن إمكانية انطلاقها من جديد برعاية أميركية واممية، وهذا ما حصل بالفعل إلى ان رفضت إسرائيل المطالب الجديدة باعتماد الخط 29 بدلاً من الخط 23 الذي جرى عليه التفاوض في الماضي، فتوقفت المفاوضات بعد جلسة يتيمة. في رأينا يبدو بأن التركيز الدبلوماسي الأميركي مع الرئيس عون للعودة إلى مفاوضات ترسيم الحدود البحرية مع اسرائيل قد جاء نتيجة إلحاح إسرائيلي بضرورة حل النزاع مع لبنان، وذلك انطلاقاً من معرفة إسرائيل بأن المنطقة المتنازع عليها هي غنية بالغاز، بالإضافة إلى ان الشركات العاملة في الجانب الإسرائيلي تلح على الدولة العبرية لحل النزاع، بحيث يتسنى لها البدء بحفر الآبار بأسرع وقت ممكن. لقد تحدث السفير آران الذي كان مسؤولاً عن المفاوضات مع لبنان أيام وساطة السفير الأميركي فريدريك هوف بصريح العبارات عن أسباب استعجال إسرائيل للوصول إلى حل لهذا النزاع.

عملت الدبلوماسية الأميركية لاقناع الرئيس عون بالدخول بالمفاوضات في وقت تعاني فيه السلطة اللبنانية من أزمات متفاقمة. وفي ظل انقسامات سياسية أدّت إلى انهيار سلطة الدولة، وتسليم كل القرارات السيادية لحزب الله وإيران. ويدرك الرئيس عون ان دولته التي باتت تقف على شفا الدولة الفاشلة لن تكون لها القدرة على خوض مفاوضات معقدة مع إسرائيل بنجاح، في وقت تعجز فيه القيادات اللبنانية عن تشكيل حكومة إصلاحية لإنقاذ الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية الكارثية.

بعد سقوط المبادرة الفرنسية، لا يمكن للبنان ان يعوّل على عقوبات يمكن ان تفرضها فرنسا على بعض المعرقلين لتشكيل الحكومة، فالكل يُدرك بأن العقوبات الفرنسية لن تكون فاعلة إذا لم تحظ بالإجماع الأوروبي، وكان قد سبق نعي التوافق الأوروبي علي لسان وزير خارجية هنغاريا بعد اجتماعه مع جبران باسيل، والذي اعتبر بمثابة طمأنة لهذا الأخير للاستمرار في عرقلته المستمرة لكل جهود تشكيل الحكومة. لا بدّ أيضاً من الإشارة إلى تصريحات الممثل الأوروبي للشؤون الخارجية جوزيف بوريل بعد زيارة لودريان الأخيرة إلى بيروت، والتي عبّر فيها عن ان «بعض الدول الأوروبية هي قلقة للغاية إذ تدهور الوضع في لبنان». ويفتقد هذا التصريح للمسؤول الأوروبي وجود أية نيّة أوروبية للوقوف مع فرنسا لإنقاذ مبادرتها أو الاقتصاص من المعرقلين لتشكيل الحكومة الإصلاحية.

في النهاية، لا بدّ ان نعود لنؤكد بأن الأزمة الحادّة التي يواجهها لبنان هي داخلية بامتياز، وبانها ليست من صنع القوى الإقليمية، بل تستفيد هذه القوى من خلافات اللبنانيين الداخلية سواء على تقاسم السلطة ومنافعها أو للحفاظ على منظومة الفساد القائمة منذ عقود، والتي تسببت بافلاس الدولة وسرقة أموال جميع اللبنانيين.

للأزمة الراهنة اسبابها الداخلية والتي تأتي في رأسها عقدة جبران باسيل والذي يبذل الجهود منذ بداية عهد عون ليكون هو الخليفة في الرئاسة، في وقت يبدو بأن الأمر قد تحول لدى صاحب العهد إلى معادلة تقول: «جبران أو الفوضى وصولاً إلى جهنم».

في ظل هذه المعادلة، وفي ظل العقبات المتوالدة، امام مسيرة جبران باسيل إلى الرئاسة، واهمها تهمة الفساد المتزامنة مع العقوبات الأميركية المفروضة عليه وفي ظل استمرار حزب الله في دعمه لباسيل، يبدو بأننا بتنا نسير بخطوات حثيثة نحو استعادة المخطط التدميري الذي اعتمده العماد عون سنة 1988، مع امكانية منع حصول الاستحقاقات الدستورية في اوقاتها عام 2022 سواء لجهة اجراء الانتخابات النيابية أو الانتخابات الرئاسية، وبالتالي تحوّل جمهورية لبنان الكبير إلى دويلة حزب الله بالفعل.

في ظل الغياب الأميركي عن المسرح اللبناني بحجة ان أزمة لبنان هي انعكاس لمختلف ازمات المنطقة من جهة، وبان حل الازمات الاقليمية الاخرى يشكل أولوية للمصالح الأميركية على حساب الأزمة اللبنانية يبقى الأمل الوحيد للخلاص بعد سقوط المبادرة الفرنسية في تفعيل وتزخيم مبادرة البطريرك الراعي للانتقال بها إلى عواصم القرار ومجلس الأمن، علنا ننجح في اقناعهم بحياد لبنان وبضرورة انعقاد مؤتمر دولي لتحصين هذا الحياد. هذا هو الخيار الوحيد الذي يمكن ان تواجه فيه عقدة باسيل، وان نمنع سقوط الجمهورية.