بيروت - لبنان

اخر الأخبار

4 آب 2021 07:04ص عهد الشعارات وخيبات الأمل

حجم الخط
قرأت كتاباً في عام 1978 بعنوان «العقل العربي» لمؤلفه عالم الاجتماع الصهيوني الشهير رافاييل باتايي، ووجدت ان افضل توصيف وجده الكاتب للعقل العربي هو في قوله: «في العقل العربي غالباً ما تستعمل الأقوال كبديل للأفعال».

ما يدفعني للعودة بالذاكرة إلى هذا الكتاب وهذا التوصيف الدقيق للعقل العربي هو خيبات الأمل المتتالية من الوعود والشعارات التي اطلقها الرئيس ميشال عون وتياره السياسي «الاصلاح والتغيير» منذ عودته من فرنسا، وفي ظل عهده كرئيس للجمهورية بعدما دخل سنته الخامسة.

جاءت اولى خيبات الامل من خلال اطلاق العماد عون لشعاراته الاصلاحية الكبيرة، والتي أرفقها بتوعده للفاسدين في الحكم بالاقتصاص منهم على فسادهم وما ارتكبوه من عمليات سرقة ممنهجة للمال العام. وكانت حصيلة هذه الاتهامات اصدار العماد عون لكتاب يتوعد فيه من اعتدوا على حقوق الشعب ونهبوا المال العام بالاقتصاص منهم وباستعادة المال المنهوب، وذلك بعنوان «الإبراء المستحيل».

كان من الطبيعي بعد نجاح تيار «الاصلاح والتغيير» في تكوين كتلة برلمانية وازنة في اول انتخابات نيابية بعد عودته من فرنسا ان يكون شريكاً في كل الحكومات التي تشكلت منذ عام 2007، وأن يحتل ممثلوه، وعلى رأسهم «صهره المفدى» جبران باسيل أهم الوزارات السيادية والخدماتية.

وجاءت نتيجة هذه المشاركة في السلطة مخيبة للآمال ومتعارضة كلياً مع مضمون الشعرات الاصلاحية التي رفعها العماد عون منذ تعيينه كرئيس للحكومة المؤقتة التي شكّلها الرئيس الأسبق امين الجميل في آخر لحظة وقبل ساعات من نهاية عهده، والتي استمر العماد عون في رفعها، واضافة المزيد من المطالب الاصلاحية عليها طيلة فترة وجوده في فرنسا، وبعد عودته إلى لبنان في عام 2005.

لا تتسع المساحة المتاحة في مقال صحفي للحديث عن انخراط التيار الوطني الحر في عملية الفساد والإفساد في السلطة والادارة، ولذلك ستقتصر المقاربة على إنجازات «العهد القوي» لشعار رفعه التيار الوطني الحر بعد انتخاب العماد كرئيس للجمهورية. ولا بد هنا من التساؤل عن مضمون تسمية «العهد القوي» في الوقت الذي يعلم فيه جميع اللبنانيين بأن التوافق على انتخاب العماد للرئاسة قد جاء نتيجة تسوية رئاسية قادها من جهة حزب الله وحليفه عون، ومن الجهة المقابلة كل من الدكتور سمير جعجع والرئيس سعد الحريري، وعلى اساس تبادل العهود والوعود بين الأفرقاء الاربعة بتقاسم النفوذ والمنافع والمكاسب المتبادلة والتي تؤمنها «جنة الحكم» في زمن «لبنان القوي والعهد القوي».

للأسف الشديد لم تصمد هذه التسوية أمام مجمل التطورات والازمات الصادمة التي تسبب بها العهد وحليفه الأساسي حزب الله من خلال الانقلاب على تفاهمات بنود التسويتين مع القوات اللبنانية وتيار المستقبل. وهكذا فرطت التسوية وتفرق «الأحبة» إلى غير رجعة.

لن اذهب بعيداً في الحديث عن النكسات السياسية والازمات الاقتصادية والمالية التي تسببت بها سياسات العهد وجميع الحكومات التي شكلها، حيث حلت في داخلها المناكفة والتعطيل بدل التوافق والانسجام وصناعة القرار الفاعل والمثمر. وأني أجد نفسي ملزماً بالتركيز على التعطيل والمناكفة التي فرضت نفسها على تشكيل الحكومات، وعلى عمل مجلس الوزراء، والذي لم تخلُ اي من جلساته من المؤامرات الكيدية، والمناورات المكشوفة لخدمة اهداف العهد والتيار السياسي التابع له، من السيطرة على قطاع الكهرباء وتبذير مئات ملايين لا بل مليارات الدولارات دون جدوى تذكر. ولم يعد سراً على جميع اللبنانيين بأن قطاع الكهرباء وسوء إدارته في عهدة وزراء التيار يتحمل 46 مليار دولار من الدين العام، والذي بلغ عند انطلاق الانتفاضة في 17 تشرين اول 2019 ما يقارب 85 مليار دولار. إني هنا اذكر بسوء اداء وزراء الطاقة التي هيمن عليها جبران باسيل منذ عام 2007 إلى الان، إن كانت تنفع الذكرى بعد «خراب البصرة» وافلاس البلد وتفكك مؤسسات الدولة في زمن «العهد القوي».

شكّل العهد ثلاث حكومات خلال خمس سنوات، ولم تكن اي منها منتجة، وذلك بسبب الخلافات والتناقضات التي كانت تنشب داخلها، او بسبب خلاف الاجندات بين مكوناتها بالاضافة إلى عدم توافر الثقة والنوايا الحسنة بين الرئيسين وتياره من جهة وبقية المكونات المشاركة في الحكومة، هذا بالاضافة إلى غرق كل الحكومات مع كل مكوناتها السياسية في بحر من الفساد، حيث جرى تقاسم الدولة، سواء لجهة تناتش السلطة والنفوذ او لجهة السطو على المال العام. وكانت حكومة حسان دياب الأسوأ بين الحكومات الثلاث، بعد أن تشكلت من مجموعة من هواة السياسة، الذين دفعت بهم قوى 8 آذار بقيادة حزب الله إلى مواقع السلطة. وأثبتت هذه الحكومة انها لم تكن جديرة بالثقة، بعدما فشلت في تحقيق اي خطوة اصلاحية، لا بل ادى سوء ادائها إلى مزيد من التدهور السياسي والاداري والمالي والامني. وهذا الامر قد ادى إلى تحلل جميع مؤسسات الدولة، باستثناء مؤسسة الجيش وبعض الاجهزة الامنية. وشاء سوء طالع الحكومة والعهد ان يتفجر عنبر نيترات الامونيوم في 4 آب فاستقالت الحكومة تحت ضغط الشارع وهول نتائج الجريمة الكبرى التي اصابت بيروت اصابة بالغة في الارواح والعمران.

منذ استقالة حكومة دياب في 10 آب 2020، وبعد مرور سنة لم ينجح العهد في تشكيل حكومة بديلة، بعد تكليف ثلاث شخصيات، فاعتذر اثنان منهم، ويبدو ان الثالث بات على طريق الاستقالة بعدما شعر بأن شروط سيد العهد تجعل مهمته صعبة للغاية، وهذا ما اشار اليه في تصريحه الاخير من القصر الجمهوري، حيث اعتبر بأن التكليف لن يطول او يستمر، طالباً ان يفهم المضمون الفعلي لتصريحه شريكه في التشكيل اي رئيس الجمهورية.

في الواقع السياسي الراهن يبدو بأن عهد عون بات يقف على مفترق خطير، فإما ان يسهل مهمة الرئيس نجيب ميقاتي ويقبل بطروحاته المرنة من اجل تشكيل حكومة، قادرة على فتح حوار جديد مع صندوق النقد الدولي، ومحاكاة اصدقاء لبنان الذين اجتمعوا امس في ندوة افتراضية، بمبادرة من الرئيس الفرنسي، وذلك بغية الحصول على بضعة مليارات من القروض والمساعدات، باتت ضرورية لتخفيف اعباء الازمة الاقتصادية والمعيشية والتي يمكن ان تحول دون حصول مجاعة بالاضافة إلى انقطاع الكهرباء وشح المحروقات والدواء، وفي ظل استمرار تدهور قيمة النقد الوطني، دون وجود اي سقف لهذا الانهيار العام.

اذا استمر العهد وتياره السياسي في تعطيل جهود الرئيس ميقاتي فان العهد مرشح للاستمرار إلى نهايته في خريف 2022 مع حكومة مستقيلة، مع كل المخاطر التي يمكن ان تلف استحقاق الانتخابات النيابية والبلدية، وبالتالي تعطيل جميع الفرص الدستورية لانتخاب رئيس جديد للبلاد. لا عجب اذا حدث ذلك مجدداً في نهاية عهد العماد عون، وذلك قياساً على الخيارات المستحيلة التي سبق له ان فرضها على لبنان اثناء حكومته المؤقتة وفي مطلع جمهورية الطائف، والتي تكررت في نهاية عهد الرئيس ميشال سليمان، حيث ادى تمترسه وراء فائض قوة حزب الله إلى فراغ سدة الرئاسة لفترة سنتين ونصف.

في يوم الذكرى الاولى لانفجار المرفأ، وفي ظل اجواء الحزن والغضب التي يشعر بها اللبنانيون، يبدو ان الرئيس عون ممعن في خياراته التي يشعر بها اللبنانيون ،يبدو بأن الرئيس عون ممعن في خياراته لتعطيل كل ما تبقَّى من الدولة، ولتبديد امل الناس في الحياة.