إنّ أكثر ما يدعو للدهشة هو استمرار منظومة السلطة في لبنان على هذه الحال من العدميّة. التساؤل عن الأسباب لا يستدعي ولا يستحق التفكير وربما لا قيمة للتساؤل. في الحقيقة لا ندري لماذا أفشل حزب الله المبادرة الفرنسية؟ إذ لم يبدو أنه كان يمتلك البديل! توقفت المبادرة فعدنا إلى المربع الأول، لندخل بعدها في مرحلة ما بعد إنفجار عين قانا وإعلان الإتّفاق الإطار لترسيم الحدود البرية والبحرية مع العدو . الكلّ متأكد أنه لا بدائل لدى السلطة وليس من طرف خارجي لديه قابليّة النقاش، المساومات الداخلية لا مردود لها فالكل خاسر وفاقد الشيء لا يعطيه. السؤال الوحيد الذي يمكن أن يطرحه أركان السلطة على الأميركيين، وفي مقدّمهم التيار الوطني الحر وحزب الله، دون ضرورة الحصول على الإجابة: هل هناك المزيد من العقوبات، ما هي حدودها وهل هناك ضمانات لعدم تكرار ما جرى في عين قانا؟
تشكيل السلطة في لبنان لم يعد تفصيلاً محلياً بل جزءاً من مشهدٍ إقليمي وضعت قواعده وضوابطه التي لا يمكن تجاوزها وهو خاضع للثابتين التاليين:
أولاً: الموقف الدولي من الإسلام السياسي.
إعلان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في الثاني من الشهر الجاري عن «أزمة الإسلام في كلّ مكان في العالم»، هو النسخة الفرنسية لرفض ظاهرة التطرف الإسلامي، بعد الإتّهامات بالإرهاب التي أعلنها الغرب بوجه الإسلام السنّي الجهادي، ومؤخراً بوجه إيران والحرس الثوري الإيراني وحزب الله. بدا ماكرون واضحاً وعازماً، بعد تجربة فرنسا الطويلة مع الجاليات المسلمة القادمة من المغرب العربي والشرق الأوسط، على قطع الطريق على ما أسماه النزعات الإنفصالية لدى الإسلاميين، وسعيهم إلى إقامة «نظامٍ موازٍ» يقوم على قيم مغايرة، وإحلال هيكلية منهجية للإلتفاف على قوانين الجمهورية، من خلال الحدّ من التعليم الدراسي المنزلي وفرض إشراف مشدد على المدارس الخاصة الدينية. لم يتوانَ ماكرون في المجاهرة بالإشراف على إعداد أئمّة المساجد، ومنع من وصفهم بالأكثر ذكاءً وتعقيدًا «من استخدام نقاط الضعف في قواعدنا الخاصة للمجيء والسيطرة على الجمعيات الدينية والمساجد، للذهاب والتبشير بالأسوأ،وتنظيم الأسوأ». وأضاف:«بنوا مشروعهم على تراجعنا وتخاذلنا» وهناك مشروع قانون سيرفع للبرلمان للتّصدي للنزعة الإنفصالية الإسلامية وترسيخ إسلام مستنير في فرنسا.
موقف الرئيس الفرنسي لم يأتِ استكمالاً للموقف الأميركي والغربي فحسب، بل لاقى العديد من مواقف الدول العربية الوازنة التي اختبرت الإسلام السياسي في السلطة، وتلاحق اليوم فلوله، سواء في تونس أو في جمهورية مصر العربية التي تخوض مع إرهابيّيه معارك طاحنة في سيناء، أو في المملكة العربية السعودية التي اتّخذت مساراً حداثياً متسارعاً على المستويين التنموي والإقتصادي، يترافق مع قدرات أمنية ودفاعية أثبتت جدارتها في القضاء على الإرهاب والتطرف كما مكّنتها من التّصدي للهجمات التي تقودها إيران عبر المتمردين في شمال اليمن.
ليس من قبيل الصدفة تصاعد هذا الميل الدولي لإنهاء ظاهرة الإسلام السياسي. فقد كشف الإعلام الأميركي هذا الأسبوع عن رسائل البريد الإلكتروني لـ«هيلاري كلينتون» وزيرة الخارجية في إدارة أوباما، والتي كشفت عن دور الإدارة الاميركية السابقة في نشر الفوضى في الشرق الأوسط ودعم مشروع الإخوان المسلمين، وطرحه كبديل لما أسمته الإدارة السابقة الأنظمة المتهالكة في الشرق الأوسط. وكشفت الرسائل الإلكترونية دور قطر في تمويل مشروع إعلام كبير في مصر يديره «خيرت الشاطر».
يمكن القول أنّ هناك بدايات لنهضة عربية قادرة على فصل الديني عن السياسي، ربما لم يعرفها العالم العربي منذ طُرد أبن رشد من الأندلس واتُهم بالشعوذة وتشويه الإسلام، وبعد أن خبَا الخطاب التنويري مجدداً ودفع رواده أمثال نصر حامد أبو زيد وفرج فودة وسواهم حياتهم ثمناً لذلك. هناك فعلاً إعادة تقييم لخطورة المزج بين النص الديني والتيارات السياسية التي جعلت إتّهام كلّ مسلم بأنه داعشي أمراً متيسراً. الإخوان في مصر عبثوا بالوعي الجماعي المصري وتسببوا بهجرة اليهود بمماهاة الدين اليهودي كرسالة سماوية مع الصهيونية وهي حركة سياسية إقصائية، مستعيدين بذلك تجربة المزج بين الدين المسيحي والحروب الصليبية وهي حروب إلغائية توسعيّة، ومقدّمين الإسلام السياسي الجهادي والتكفيري كنموذج سياسي وإقصائي جديد.
ثانياً، عروبة جديدة قيد التبلوّر.
لا زالت الجغرافيا تصنع التاريخ. والعروبة التي تعارفنا عليها وحملت أكثر من معنى وأكثر من مفهوم إنما استمدت كلّ تلك الأبعاد من جغرافيا مشتركة إرتضيناها الحيّز الجغرافي الذي يختصر كلّ القضايا، القضية الفلسطينية والأمن القومي العربي والسوق العربية المشتركة والدفاع العربي المشترك والأمن المائي والغذائي وغيرها. ربما علينا الإعترف أننا لم نمتلك النضج الكافي للسير بها وتطويرها، بل اقتصرت علاقتنا بكلّ تلك العناوين على تردادها في الساحات مع إخفاقاتنا، لتعويض قراءاتنا الخاطئة لإدارة الصراع مع ما أسميناه قوى الإستعمار والإمبريالية.
نتائج حرب 1976 جعلتنا ندرك أننا لم نحسن ترجمة العروبة إلى قدرات عسكرية، ونتائج حرب 1973 أثبتت أنّ عروبتنا لم تفضِ إلى إدارة صلبة للصراع، وتحوّلت القضية بعد كامب دايفيد إلى مساومة مع الأميركيين على حساب ما تبقى من إرادة للقتال. أضحت الساحات المتبقية بعد ذلك ،في لبنان وفلسطين، ميادين لتبادل الرسائل بين العرب أنفسهم أو بين العرب وإسرائيل واختبار قدرات اللاعبين. دفع لبنان أثماناً باهظة منذ العام 1969 وحتى العام 1982 لإنقاذ عروبة أضحت لفظيّة، وضاعت مضامينها وموجبات الإنتساب إليها، لتُختطف بعد ذلك القضية الفلسطينية ويُختطف معها لبنان ولا يزال، ويوضعان في خدمة محوّر جديد طارئ على الجغرافيا العربية وممتشقاً قضيتها، محوّر إنطلق من طهران ناشراً راياته حتى البحر المتوسط في هجمة مغوليّة أسقطت الدول التي عبرتها، وأدخلتها في فوضى عارمة قبل أن تلامس تراب فلسطين.
أسقطت العروبة الجديدة خيار الحرب، لتختلط كلّ الأوراق ولتدخل مكوّنات المنطقة برمّتها في تحديّات مفتوحة قوامها حماية الأمن والإقتصاد والقدرات البشرية والثروات الطبيعية، وهي عناوين لم تألفها النسخة الأولى من عروبتنا. والعروبة الجديدة لها شرعيتها وهي جزء لا يتجزأ من الشرعية الدولية. خيارات الإتّفاقات المنفردة وبعدها اتّفاقات التطبيع هي التي سترسم أشكال الصراعات المستقبلية وأدوار وقدرات المكوّنات في المنطقة بعيداً عن الخيارات العسكرية. وترسيم الحدود اللبنانية البحرية والبرية جزء من وجه المنطقة الجديد الذي فرضه ميزان القوى ولا إمكانية لمن قبله على العودة عنه. قد يختلف اللبنانيون تجاه هذا الخيار، كما هم مختلفون حول مشروع المقاومة التي تحوّلت بدورها عملاً إقصائياً وهذا مأزقها، لأنها لم تكن نتاج إجماع شعبي عارم يحاكي الذات الوطنية ويطمئن كلّ اللبنانيين.
الخيارات المتاحة أمام سوريا هي الخروج من مرحلة الإستباحة التي تمارسها طهران من جهة وتركيا من جهة أخرى إلى مرحلة التفاوض الشاقة لاستعادة الجولان، فالساحة اللبنانية لم تعد الحديقة الخلفية لسوريا ولا يمكن أن تكون كذلك، ليس بسبب التّدخل الأميركي بل بسبب ضيق الحال الإيراني. سوريا ستدخل الشرق الأوسط الجديد الذي إرتسمت معالمه بوضوح، وعلى قاعدة ملء الفراغ، والإختلاف الوحيد المتوفر هو في توقيت الإلتحاق بالمشهد.
ربما نجحت الجمهورية الإسلامية في إيران وعلى مدى أربعة عقود في الإستثمار في عفويتنا واندفاعنا لاستعادة حق ضائع. لكن المشروع محكوم بالفشل لأنّ للجغرافيا قواعدها، ولأنّ هناك استحالة لإخراج العراق وسوريا ولبنان من الجغرافيا العربية إلى جغرافيا إفتراضية قوامها نظرية فقهيّة أعلنت العداء للعالم.
مدير المنتدى الإقليمي للإستشارات والدراسات