بيروت - لبنان

اخر الأخبار

25 تشرين الثاني 2020 12:02ص كلكم فرديناند ماركوس

حجم الخط
يؤشر اعتذار شركة الفاريز ومارسال عن تنفيذ العقد الذي وقعته مع وزارة المالية لاجراء التدقيق الجنائي في حسابات مصرف لبنان، بعد رفض حاكم المصرف تزويدها بكل الكشوفات والمستندات التي طلبتها، إلى مدى استشراء الفساد في عقول وعروق الطبقة السياسية. لا يأتي رفض الحاكم بالتجاوب مع مستلزمات التحقيق الجنائي بقرار يتفرد به، وعلى مسؤوليته الخاصة، والقاضي بتنفيذ قرار مجلس الوزراء باجراء التحقيق الجنائي، بل هو قرار جماعي تتخذه منظومة الفساد، ومن ضمنها رياض سلامة لتحمي نفسها، هرباً من انكشافها، وإمكانية الاقتصاص منها سياسياً وقضائياً.

استوقفني ما ورد في خطاب الرئيس ميشال عون عشية الاستقلال حول تأكيده مدى عجزه مع حكومته ومع وزيرة عدله عن اجبار حاكم مصرف لبنان على تنفيذ القرار المتخذ في مجلس الوزراء، والذي يمثل، وفق نص الدستور، المصدر الاساسي والوحيد لكل قرارات السلطة الاجرائية. دفعني هذا المشهد المأسوي إلى التفتيش والبحث عن اسم أكبر الفاسدين في التاريخ الحديث. وقد وجدت بأنه الرئيس محمّد سوهارتو الذي حكم اندونيسيا لفترة تمتد إلى 31 سنة، ما بين عامي 1967 و1998، جمع سوهارتو من خلال فساده ثروة مالية قدرت ما بين 15 و35 مليار دولار. لم تستطع السلطات الاندونيسية اللاحقة استرجاع سوى 307 ملايين دولار من هذه الثروة الكبيرة، كما استعادت من ابنه مبلغ 50 مليون دولار، والذي عاد وصدر حكم بسجنه لمدة 15 سنة لقتله القاضي الذي حكمه. وجاء اسم فرديناند ماركوس رئيس الفيليبين الأسبق الثاني في اللائحة، حيث اتهم بسرقة ما يقارب 15 مليار دولار، استعيد منها لاحقاً من قبل الدولة 3.6 مليارات دولار. وكان مصيره العزل والنفي، والموت في هاواي. فهل يتعظ هؤلاء المارقون الفاسدون مما حدث للحكام الفاسدين؟ وهل يُدرك الحاكم ما ستكون مكانته في التاريخ بعد سقوطه المريع.

لكن، المشكلة التي نواجهها في لبنان هي أكثر فداحة وضرراً وتعقيداً من حالة الفساد التي عرفتها اندونيسيا في ظل حكم محمّد سوهارتو أو الفيليبين في عهد فرديناند ماركوس، المشكلة هنا لا تقتصر على رئيس فاسد، بل تشمل منظومة سياسية واسعة، دأبت على سرقة المال العام، وتسخر كل الطاقات الوطنية لخدمة مصالحها، وزيادة ثرواتها، خلال فترة زمنية امتدت على ثلاثة عقود. لم تكتف الطبقة السياسية بالسطو على المال العام لتكديس ثرواتها من الصناديق والمجالس والهيئات ووزارات الخدمات، ولكنها ذهبت إلى حدّ التواطؤ مع حاكم مصرف لبنان وأصحاب المصارف والمتعهدين والمحتكرين لنهب أموال المودعين، والسطو على الارزاق وصولاً إلى لقمة عيش الفقراء.

لم يقتصر الأمر على سرقة الاموال العامة، والسطو على أموال المصارف، بل توسعت عمليات الفساد تحت عناوين الديمقراطية التوافقية، وتشكيل حكومات وحدة وطنية وجامعة لكل القوى المتمثلة في مجلس النواب، لتأخذ طابع المحاصصة، والتي جرى من خلالها محاباة الاتباع والازلام واغداق النعم عليهم بالمكاسب المادية أو بالوظائف في الإدارات العامة، وذلك تحت ذريعة الدفاع عن حقوق الطوائف والمذاهب.

كان اللافت في الأمر تواطؤ حاكم مصرف لبنان وأصحاب المصارف ورؤساء مجالس إداراتها مع طغمة الفساد من السياسيين من أجل تأمين المزيد من التدفقات المالية على حساب الخزينة لتأمين فائض الأموال اللازمة إرضاءً لجشعهم، وزيادة حجم ثرواتهم. لقد ابدع حاكم مصرف لبنان في ابتكار التقنيات المتطورة في هندساته المالية المتتابعة لتأمين الأموال اللازمة التماساً لرضى ودعم القوى السياسية له في موقعه. وذهب في نفس الوقت إلى استعمال أساليب المراوغة لطمأنة النّاس والمودعين في المصارف بأن الأوضاع المالية والنقدية هي على ما يرام، وبأن المصرف المركزي يمتلك من الاحتياط ما يكفي لمواجهة جميع الحالات الطارئة. اما علاقته مع المصارف فقد اتسمت بثقة الشريك الذي يعرف ويحرص على تأمين مصالح شركائه، من خلال ارضائهم بفوائد مرتفعة جداً لقاء ودائعهم في خزائنه أو من خلال شرائهم، واستبدالاتهم المتتالية لسندات الدين العام. لقد سيطر رياض سلامة على المصارف ورؤساء مجالس ادارتها من خلال مقارباته المتطورة المستندة على مجموعة من التقنيات الحديثة للسوق المالية، والتي بنى عليها هندساته المالية المتكررة، التي حققت لهم ارباحاً ضخمة دفعتهم لتجاهل المخاطر المترتبة على حصر معظم توظيفاتهم في سندات الخزينة بالليرة أو بالدولار أو اليورو. وهكذا اوصلت هذه التوظيفات ومخاطرها المرتفعة المصارف إلى حالة من فقدان السيولة، وبالتالي مواجهة حالة الإفلاس الفعلي.

جاء الفصل الأخير من هذه المؤامرة الثلاثية الاضلاع من خلال قيام أصحاب المصارف بتحول اموالهم الخاصة، وأموال السياسيين إلى المصارف الخارجية، وبرضى وسكوت تام من قبل حاكم مصرف لبنان ولجنة الرقابة على المصارف.

كان من الطبيعي انه في ظل توقف المصارف عن توفير العمليات أو السحب بالدولار وفي ظل شح الدولار النقدي ان تقع الواقعة، وان يفلت سعر صرف الدولار من عقاله ليصل إلى عتبة عشرة آلاف ليرة، وان ينعكس ذلك بشكل دراماتيكي على مستوي أسعار السلع، وبالتالي ارتفاع نسبة الفقراء إلى ما فوق 50 في المائة، مع توقع بلوغها في الأشهر المقبلة 70 في المائة، إذا لم تشكّل حكومة إصلاحية، قادرة على اجراء الإصلاحات الضرورية لتأمين الحصول على بضعة مليارات من الدولارات كمساعدات وقروض دولية.

تقتضي الصراحة والموضوعية بأن ندعو السياسيين الفاسدين لكي يخجلوا من أنفسهم على ما تسببوا به من اضرار للوطن ومن فقر وألم وذل للمواطنين، وخصوصاً بعد كارثة انفجار المرفأ، والتي كانت قد سبقتها أزمة تبخر الودائع المصرفية وتبعها التدهور السريع في قيمة الليرة. ان فسادهم وتواطؤهم هو أشدّ بليّة من فساد سوهارتو بأشواط عديدة. صحيح ان سوهارتو كان فاسداً وجمع ثروة طائلة أثناء حكمه، ولكنه لم يفعل ذلك من خلال افقار شعبه وافلاس المصارف وتحطيم اقتصاد اندونيسيا على غرار ما فعلته الطغمة السياسية الراهنة. لقد ارتفع دخل المواطن في اندونيسيا أثناء حكمه من 806 دولارات إلى 4114 دولارا، وانخفضت نسبة الفقراء من 40 في المائة عام 1970 إلى 11 في المائة عام 1997، كما رفع متوسط العمر من 47 سنة إلى 67 سنة، مع تراجع موت الأطفال بنسبة 60 في المائة.

بالتأكيد انتم لا تشبهون سوهارتو بعد افلاسكم للبلد وتسارع نسبة الفقراء, فأنتم أقرب إلى فساد ماركوس والذي تسبب بإفقار الشعب الفليبيني وتجويعه، حيث ارتفع الدين العام أثناء حكمه من 360 مليون دولار إلى 28 مليار دولار، وارتفع عدد الفقراء من 18 مليونا إلى 35 مليون جائع.

على ضوء ما ورد في خطاب الرئيس عون (المليء بالتناقضات) من إصرار على ضرورة إنجاز التدقيق الجنائي في مصرف لبنان، فإننا نتساءل بجدية عن مدى مصداقية القلة من الذين يطالبون بإنجاز هذه العملية. يبدو بأن الالتباس يلف مختلف المواقف ضمن فريق الصف الواحد، وأفضل مثال على ذلك هذا الاختلاف لا بل التناقض في موقفي وزيرة العدل ورئيس اللجنة المالية في مجلس النواب، ناهيك عن الالتباس والغموض الذي يلف حقيقة موقف وزير المالية المريب، والذي باتت تدور شبهات حول دوره في تخلي شركة الفاريز ومارسال عن تنفيذ العقد الذي وقعه هو شخصياً نيابة عن الحكومة اللبنانية.

يبقى المدخل لأية عملية إصلاحية، بما في ذلك التدقيق المالي بالعمل وتسريع تشكيل حكومة إنقاذ من المستقلين، وان مسؤولية ذلك هي أمانة في عنق الرئيسين عون والحريري، حيث يقتضي عليهما تجاهل كل التجاذبات السياسية والضغوط الخارجية، والعمل سوية بنية حسنة وبارادة ومسؤولية على تشكيل حكومة كفوءة وفاعلة.

في النهاية نتوجه إلى الطغمة السياسية الفاسدة لنقول لها بأنكم لا تستأهلون ان نشبهكم بسوهارتو، بل انتم من مدرسة ماركوس بعدما جوّعتم وافقرتم هذه النسبة العالية من اللبنانيين، وسيكون دون شك مصيركم السجن أو النفي، على غرار ما انتهى إليه ماركوس.

ويبقى الأمل ان ننجح في استرجاع بعض الأموال التي نهبتموها منا، على غرار ما فعلته الفيليبين التي نجحت في استرجاع ثلاثة مليارات وستمائة مليون دولار من الأموال التي نهبها ماركوس وزوجته.