بيروت - لبنان

اخر الأخبار

16 شباط 2022 08:34ص لا عودة للحريري قبل انتهاء الهيمنة الإيرانية

حجم الخط
حلّت الذكرى الـ17 لاغتيال الرئيس رفيق الحريري في فترة يغرق فيها لبنان في سلسلة من الأزمات السياسية والاقتصادية والمالية المعقدة، والتي لا يمكن الخروج منها في ظل استمرار هذه الطبقة السياسية الفاسدة والفاشلة بالتمسك في مواقعها في السلطة، من خلال استعداداتها لتجديد تحالفاتها الانتخابية، تمهيداً للعودة بأكثرية نيابية، تفتح امامها أبواب العبور إلى عهد جديد لا يختلف في ادائه التراجعي للسلطة عن مسلسل الانهيارات التي شهدتها الدولة في جميع مؤسساتها خلال عهد الرئيس ميشال عون. 

لكن الاختلاف الكبير بين هذه الذكرى وسابقاتها أنها تأتي في وقت قرّر فيه الرئيس سعد الحريري إنهاء دور الحريرية السياسية في السلطة، من خلال عدم مشاركته مع تياره السياسي في الانتخابات النيابية المقررة في 15 أيّار المقبل.

في الواقع لم يشرح سعد الحريري الأسباب التي دعته لاتخاذ مثل هذا القرار الدراماتيكي على الحريرية السياسية وعلى الطائفة السنية، والتي لم تكن مستعدة لتلقي نتائجه، والتي ستتسبب بمزيد من الاحباط والتشرذم في ظل الهجمة السياسية الشرسة التي يقودها حزب الله لاختراق دوائرها الانتخابية من اقصى الشمال الى العاصمة بيروت وإلى صيدا والاقليم والبقاع. 

ولا نغالي إذا قلنا بأن مختلف التجمعات والقيادات السنية تشعر بحالة من الاحباط والضياع بعد انسحاب تيّار المستقبل من العملية الانتخابية، وأن البديل المرتقب لن يعدو كون العودة إلى بعض الزعامات التقليدية البالية، والتي اكل عليها الدهر وشرب، بالإضافة إلى بعض الشباب من هواة السياسة الجدد، سواء من المجتمع المدني الناشط الذي أفرزته ثورة 17 تشرين أو من النخب الطامحة للاستفادة من الفراغ الحاصل في الشارع السني بعد انسحاب تيار المستقبل، والذي يستقطب وفق آخر الاستطلاعات ما يتراوح ما بين 40 و48 في المائة من الأصوات في مختلف الدوائر ذات الأكثرية السنية.

في رأينا لن يغيّر دخول بهاء الحريري إلى المعركة الانتخابية المقبلة في حالة الاحباط السنية أو في الاختلاف في موازين القوى السياسية على الصعيد الوطني الذي خلفه غياب تيّار المستقبل عن المسرح السياسي، والذي شكل منذ انتخابات عام 2005 المظلة الأساسية التي انضوت تحتها جميع القوى السيادية، وبشكل عابر للطوائف والمناطق، وبشكل أهَّلها لخوض معارك انتخابية متكررة، أمنت لها الأكثرية النيابية لمواجهة فائض قوة تيّار المقاومة والممانعة بقيادة حزب الله على الأرض، بعد «النصر الإلهي» الذي حققه في حرب 2006 ضد إسرائيل، وانكفائه إلى الداخل لفرض هيمنته على العاصمة بيروت، معقل الحريرية السياسية وعرين التيار السيادي المتمثل بقوى 14 آذار بكل تلويناته السياسية والطائفية والمذهبية، مع كل ما يحظى به من دعم دولي وعربي. يبدو بأن الحركة السياسية السنية التي يقودها السيّد بهاء الحريري بعد تعهده بعدم السماح بإقفال منزل رفيق الحريري لن يتعدى حجمها الانتخابي حجم الكتل السنية الأخرى التي ستنبت على أطلال تيّار المستقبل، ولن تتعدّى في أفضل الظروف 10 إلى 11 في المائة من الأصوات السنية، وبالتالي ما يؤمن لها بضعة نواب في المجلس الجديد.

في الواقع لا تتوافر أية معلومات عن الأسباب الحقيقية التي دفعت سعد الحريري لاتخاذ قراره الدراماتيكي بالخروج المفاجئ من المعترك السياسي، في وقت تبدو فيه الحاجة ماسة لمشاركته السياسية لمواجهة الاخطار التي باتت تُهدّد بزوال الدولة اللبنانية وبتهديم ركائز المجتمع اللبناني، والذي سعى سعد الحريري شخصياً إلى بناء اساساته وركائزه، وذلك من خلال إطلاق شعار «لبنان أولاً»، ومن خلال التصدّي لكل المحاولات الظالمة لفرض الهيمنة الإيرانية على لبنان، بدءاً من أصوات 7 أيّار 2008، ومروراً بمقررات مؤتمر الدوحة، وتعطيل عمل المجلس النيابي وشل سلطة مجلس الوزراء، إلى التدخل سياسياً وعسكرياً في شؤون الدول العربية - الخليجية، وقيادة شبكات تهريب المخدرات الدولية، وكل ما يواكب ذلك من عمليات تبييض الأموال، والذي انعكس سلباً على سمعة لبنان المالية، والذي ادى إلى وضع النظام المصرفي اللبناني تحت المجهر الدولي. وشكلت التسوية الرئاسية التي فرضها حزب الله على تيّار المستقبل وسعد الحريري من أجل حمل حليف حزب الله العماد عون إلى سدة الرئاسة رصاصة الرحمة للقضاء على الحريرية السياسية كرائدة لتيار السيادة والاستقلال، وأدت بالتالي إلى تفكك وسقوط تكتل 14 آذار، دون أي أمل بإمكانية إعادة وصل ما انقطع من وشائج التحالف الجامع لتحقيق السيادة واستعادة لبنان من فم «التنين الإيراني».

من الطبيعي انه لا يمكن ربط عزوف الشيخ سعد عن المشاركة بالحياة السياسية خلال المرحلة الصعبة الراهنة بسبب التفكك الحاصل في صفوف قوى 14 آذار، فالامر في رأينا يتعدى ذلك ليشمل مجموعة من الأسباب الجوهرية، يمكن ذكر بعضها على الشكل الآتي: 

أولاً، عدم توفّر المال والدعم اللازمين للانفاق على معركة انتخابية ناجحة في ظل الأزمة الاقتصادية والمعيشية الخانقة، التي يواجهها لبنان، وخصوصاً في المناطق السنية الفقيرة في طرابلس وعكار والتي تشكّل الثقل السياسي والشعبي لتيار المستقبل، وكان من اللافت ذكر الحريري في بيان العزوف لتبديده لثروته الشخصية على العمل السياسي.

ثانياً، يمكن ربط قرار العزوف عن المشاركة السياسية بالمبادرة التي حملها وزير الخارجية الكويتي إلى المسؤولين اللبنانيين، مع إدراك الحريري لمدى جدّية الدول الخليجية لمحاسبة والاقتصاص من الدولة اللبنانية في حال استمرارها بالخضوع لاملاءات حزب الله وحلفائه في سياسة العداء للعرب، من خلال الاستمرار في التدخل في الصراعات التي تغذيها إيران داخل العراق وسوريا واليمن والبحرين ولبنان.

ثالثاً، إدراك سعد الحريري بأن نتائج الانتخابات المقبلة لن تكون بأفضل من نتائج انتخابات عام 2018، في ظل اجرائها على أساس القانون الانتخابي الراهن، والذي يعطي افضلية مطلقة للثنائي الشيعي، من أجل نسج تحالفات تؤمن له الحصول على أكثرية نيابية، تمكنه من التحكم بالانتخابات الرئاسية الممكنة، كما تمكنه من الهيمنة على عملية تشكيل حكومة جديدة، بدءاً من تسمية الرئيس المكلف إلى توزيع الحصص داخل الحكومة، وستؤدي هذه العملية إلى تحميل تيّار المستقبل والحريرية السياسية مسؤولية الانهيارات الجديدة التي ستشهدها السلطة السياسية في لبنان تجاه الدول الخليجية والدول الداعمة للبنان.

في المحصلة يبدو بأنه قد تولَّدت قناعة لدى الحريري بأنه بات من المستحيل بعد التصدع الذي أصاب البنية السياسية الوطنية، وحالة الانحلال والتفكك التي حلت بجسم الدولة، وضع البلاد على سكة أي إصلاح سياسي أو اقتصادي أو مالي، كخطوة مطلوبة من المجتمع العربي والدولي، من أجل تأمين القروض والمساعدات اللازمة للنهوض والخلاص.

في النهاية اعتقد بأن قرار الحريري بالعزوف عن المشاركة في الانتخابات والنأي بنفسه وتياره عن المشاركة في المسؤولية عن تفكك الدولة والمجتمع، وتحوّل لبنان الوطن الواحد إلى مقاطعات متناحرة ومتحاربة، فالازمة ما زالت في بداياتها، وهي تدفع نحو مزيد من التشرذم، والذي يبشر بالتحول إلى الفتنة عند أوّل اختبار أمني لخطوط التماس التقليدية للحرب الأهلية، والتي يمكن في حال تفاديها ان تعطي الحريري الفرصة للعودة للعب دور سياسي جديد ومؤثر في ظل تطوّر دولي واقليمي فاعل وقادر على ضبط السلوكية الإيرانية الساعية للهيمنة.