بيروت - لبنان

اخر الأخبار

9 تشرين الثاني 2017 12:11ص لبنان إلى غرفة العناية الفائقة

حجم الخط
استقالة دولة الرئيس سعد الحريري التي فاجأت الداخل والخارج، أطلقت فور الإعلان عنها جملة من الحقائق والثوابت فكانت زلزالاً مدويا طاول الأوضاع التي سادت البلاد على مدى عمر العهد الجديد، وأوقعتها عند حدود الإنزلاق الخطير الذي كاد يؤدي بالوطن كلّه إلى الوقوع الكامل في براثن التهديد الإيراني الذي سمحت له ظروف المنطقة وهجمة روسيا الهوجاء باتجاه العالم العربي عموما وسوريا خصوصا، بتحقيق عدد من «الإنجازات» باتجاه تجسيد ما أُسمي بالهلال الشيعي المنطلقِ من طهران وصولا إلى بيروت وشواطئ البحر المتوسط، تحقيقا لأحلامٍ وطموحاتٍ فارسيةٍ قديمة، تنبهت لها الأمة العربية بأسرها، وشرعت بمكافحتها بشتى الوسائل السياسية والديبلوماسية والعسكرية، وها هي الإنتفاضة المفاجئة التي حققها الرئيس الحريري من خلال استقالته الجريئة، تهز طموحات إيران وتعيد المصالحة الوطنية المحدودة التي سبق أن أطلقها الرئيس الحريري في محاولة منه لإنقاذ البلاد من مهاوي السقوط المدمر، للتخفيف من وطأة المحاولات الفئوية للإطباق على أعناق أجزاء واسعة واستراتيجية الامتدادات الإقليمية المخترقة لثلاث دول عربية وصولا إلى بيروت، من دون الأخذ بعين الاعتبار أوضاع التركيبة اللبنانية، ومن دون الالتفات إلى ما يمكن ان تحدثه تلك الاندفاعة الهوجاء من ردود فعل إسرائيلية قد تنتهي بمجابهات متبادلة ما بين إسرائيل وما أسمته بالجبهة الشمالية المتضمنة لأجزاء واسعة من الأراضي اللبنانية والسورية وبتجاهل كامل لما يمكن أن تلحقه أي حرب صاروخية من خراب ودمار على مدى الأرض اللبنانية، ومؤسساتها ومنشآتها العامة والخاصة، والذين رأوا في استقالة الرئيس الحريري وقفة لا بد منها في وجه مصالحة وطنية متكاملة، أُكِلَ منها التكامل، واعتُبرتْ بحدّ ذاتها كسبا للحزب يمكن البناء عليه لتحصيل مزيدٍ من مكاسب الإطباق على لبنان، دولة وجيشا ومؤسسات، وانتماء يجاهر بعداوته للعروبة وبهوية هذه المنطقة التي لطالما ناصبتها المطامح الفارسية عداء تاريخيا متأصلا في جذور عميقة لم تفلح الأيام ولا شمولية الدين الإسلامي بكل مذاهبه وتفرعاته في الإبقاء على وحدة شعارها وأسسها ومبادئها وفي ردعها عن معاداة ابناء هذه المنطقة وعروبتهم وجذورهم المتأصلة والراسخة، وهي في الوقت نفسه الذي تزعم فيه أنها متوجهة بتطلعاتها نحو القدس، تحول مساراتها العدائية، وتتوجه إلى العالم العربي... وإلى حيثما تمكنها مطامحها والظروف من مدّ أذرعتها وسلاحها ووضع اليد وإيقاع المظالم والمذابح والفرز السكاني الممنهج. 
وهكذا... بعد أن طفح الكيل، وتجلّت الممارسات من جملة من التصرفات المؤسفة، من أواخرها، تهريب الإرهابيين بالحافلات المبردة ومنحهم الرعاية والحماية الإنسانية في طريقهم إلى مناطق أخرى في سوريا، ومنع الجيش اللبناني من الاحتفال بنصره في جرود عرسال.
وبعد أن «طفح الكيل» نتيجة الإطباق على مواقع السلطة بأنواعها وأشكالها كافة (قضائية وإدارية وأمنية وإعلامية)، وبعدما كان لتصريحات الجنرال عون المبرّرة للاحتفاظ بسلاح الحزب حتى انتهاء أزمات المنطقة، فضلا عن تصاريح سابقة مماثلة، كان لتصرفات الوزير باسيل على وجه الخصوص من نتائج مؤسفة أحدثت كثيرا من العنعنات الوطنية والميثاقية والإدارية وفقا لما هو شائع ومعروف. 
وبعد إصرار غير مسبوق من قبل مسؤولين وإعلاميين في الحزب على متابعة التعرض بالنقد الشديد والمنحدر إلى درجة الشتائم، للمملكة العربية السعودية ودول التحالف الخليجي، الأمر الذي جعل من الأجواء اللبنانية – الخليجية، كتلة من التوترات المتعادية، أدت إلى إلحاق في ضمن ما الحقته أصناف من الأذى الاقتصادي بالوطن والمواطنين، وهو مع الأسف ازداد حدة وشدة مع تطور الظروف وانفلاش الأحداث على امتداد المنطقة عموما والبلدان الخليجية خصوصا وصولا إلى اليمن والكويت والبحرين وعدد من الدول الإفريقية والآسيوية. 
بعد ذلك كله... طفحت المكاييل كلها ولم يعد أمام الرئيس الحريري المنطلق أساسا والمستمر لاحقا في سياسة إعادة الدولة إلى أسسها ودستورها ومقاييسها الوطنية والميثاقية، إلاّ تفجير تلك القنبلة المزلزلة. وبالرغم ممّا ذكره في كلمته الأخيرة لجهة أحساسه بأنه عاش مؤخرا أجواءً تشبه تلك الأجواء التي سبقت جريمة العصر التي تمثلت بالتفجير الهائل الذي قضى على حياة والده، وبالرغم من نفي بعض أركان السلطة لما ذكره في كلمته الاستقالية، إلاّ أنها مؤشر هام إلى أحد أسباب السرعة والكتمان التي رافقت سفره المفاجئ إلى السعودية سعيا منه لتأمين حماية حياته من عدوان أكدت كثير من المصادر الإعلامية والأمنية الغربية أن وقائعه صحيحة وغير مبالغ فيها.
ولما كانت استقالة الرئيس الحريري من رئاسة الحكومة ألحقت به أذى كبيراً من خلال الانقلاب على أسس المصالحة الإنقاذية، فإذا بها بالنتيجة العملانية حكومة العودة بالبلاد إلى اندفاعات هوجاء باتجاه إعادة البلاد إلى مكامن التحكم السوري وإضافة المكامن الإيرانية الجديدة التي أعلنت تكرارا، وخاصة في المرحلة الأخيرة، أن إيران قد وضعت يدها وإطباقها على لبنان وأنها بذلك تكون قد أرست قلاعها وقواعدها على شواطئ البحر المتوسط. في إطار هذه الأجواء، جاء هذا الموقف الجريء واضعا حدّا فاصلا ما بين التسوية والاستقالة، وعودة حازمة إلى واقع وحقيقة لبنان العربي وارتباطاته القومية والاقتصادية بأشقائه العرب، وبذلك استعاد الرئيس الحريري جملةً من المواقع الشعبية التي كانت قد هزّتها أصول وفصول المصالحة الحاصلة، وبذلك تعززت مواقعه الشعبية في مجمل طائفته السنية، كما أعادت قوى الرابع عشر من آذار إلى أرضيتها وأجوائها وحماسها للمواجهة السياسية.
وفي مطلق الأحوال، لقد صوّب الرئيس الحريري باستقالته، مسالك المصالحة ومنطلقاتها، وبذلك هو اليوم سعد الحريري أبن الشهيد رفيق الحريري الممسك بخيوط المواقع الوطنية في مجمل هذا البلد، إضافة إلى امساكه بخيوط بيئته على امتداد الوطن كله. وهذا لا يلغي ضبابية ودقّة وخطورة الأوضاع الحالية والمقبلة، ووجوب أن تتوجه الأنظار إلى الخارج الإقليمي والدولي، حيث أننا قد بتنا دون شك في عين العاصفة وفي صلب تطورات إقليمية شاملة تبقى هي الأساس الأهم في أية تطورات مقبلة.