بيروت - لبنان

اخر الأخبار

6 آب 2021 08:02ص لما الخوف من التنويع شرقا؟

حجم الخط
هنالك نقاش جدي بين الفرقاء اللبنانيين حول مصلحتنا كاقتصاد في الاتجاه شرقا أي عمليا نحو الصين للاستثمارات والتجارة بالاضافة طبعا الى الحفاظ على علاقاتنا العربية والغربية. المشكلة تكمن في أن السياسيين يخلطون بين المصلحة السياسية والاقتصادية وبالتالي تضيع النتائج الجدية والمفيدة. الجميع عالميا يخاف اليوم من «القوة الصفراء» التي أطلقت عليها في الغرب تسميات سلبية تحمل الكثير من التجني. ليست هنالك أمثلة عديدة مشابهة للصين من حيث الانتقال من اقتصاد فقير ونام الى أول أو ثاني اقتصاد في العالم بسرعة. تحولت الصين خلالها من مستورد لرؤوس الأموال الى مصدر، وطريق الحرير تشهد على ذلك.

اعتمدت الصين وما زالت النظام الشيوعي السياسي، لكنها انفتحت في الاقتصاد حيث كان وما زال النموذج الرأسمالي هو المعتمد والمطبق. في سنة 1949، تأسست الجمهورية الشعبية الصينية مع «ماو تسي تونغ» القائد التاريخي الذي آمن بالشيوعية كنظام عام. توفي في سنة 1976 وانتقلت الصين الى مراحل أخرى مختلفة. كان حجم الناتج الصيني وقتها يعادل 5% من الناتج العالمي.

في سنة 1979 ومع «دينغ هسياو بينغ» وبفضل سياسات الانفتاح الاقتصادي، بلغ حجم الاقتصاد في سنة 1995 حوالي 11% من الناتج العالمي وعبر معايير حسابية أخرى 20%. في سنة 2016 وحدها، بلغت الاستثمارات الصينية الخارجية 150 مليار يورو وتوزعت على قطاعات متنوعة مما يشير الى الرغبة والقدرة على التنويع لتخفيف المخاطر. استثمرت الصين في المؤسسات السياحية الغربية وشركات السيارات والطيران والمرافئ العامة. من المدهش وفي المؤتمرات العالمية الأخيرة أن نسمع بعض القيادات الأميركية خاصة خلال ادارة ترامب تتكلم عن خطورة التجارة الحرة ومساوئ انتقال رؤوس الأموال عبر الحدود، بينما نسمع القيادات الصينية الشيوعية تدافع عن الاقتصاد الحر ومزاياه وأهميته للنمو العالمي.

تعلمت الصين كثيرا من تجربة الاتحاد السوفياتي الفاشلة. شددت على تحقيق النمو المتواصل، وهذا ما لم يستطع الاتحاد السوفياتي تحقيقه. كان الاتحاد مقفلا ويحكم من قيادات غير منفتحة ولا تقبل التغيير والتحديث. عندما جاء «غورباتشوف» الى الحكم، كان الوضع منتهيا ولم تكن هنالك فرصة عملية واقعية للمعالجات. كانت السلطات مركزية في الاتحاد، كما أن النقاشات والاعتراضات محدودة. أما الصين فوسعت اللامركزية الى حدود كبيرة توزيعا للنمو ولتسمح بمزيد من الحريات المضبوطة للمناطق.

يرى الصينيون ان الجمع بين سلطة مركزية شيوعية قوية ونظام اقتصادي رأسمالي ممكن جدا بل مرحب به لتحديد الأهداف وتنفيذها بعيدا عن الفوضى والهدر وتضييع الوقت. نجح الصينيون في هذا الجمع، لكن السلطة المركزية بقيت قوية والحريات السياسية والاعلامية محدودة كما تشير اليه أحداث هونغ كونغ. تعلم الصينيون كثيرا أيضا من الدول المجاورة وخاصة اليابان وكوريا الجنوبية، وبالتالي نفذوا بذكاء اصلاحات في القطاع الزراعي أي حولوا الملكيات الكبيرة الى أخرى صغيرة منتجة. قاموا بتحويل الصناعات من محلية الى عالمية مصدرة وجاذبة للعملات الصعبة. تدخلت الحكومة الصينية في القطاع النقدي عبر ابقاء الفوائد منخفضة وسعر الصرف متدن ووضعت قيودا على رؤوس الأموال لضرورة الاقتراض وثم الاستثمار. ما قامت به الصين عبر عقود من الجهد لا ينجح بالضرورة في أماكن وأوقات مختلفة. دخلت الصين الى منظمة التجارة العالمية في 2001 وبالتالي تلتزم الصين أكثر فأكثر المعايير والقوانين الدولية.

هل الخوف من الصين مبرر؟ هذا ما نسمعه يوميا من المسؤولين الغربيين وخاصة الأميركيين؟ الخوف ممن ومن ماذا؟ الخوف من الحزب الحاكم أو من النمو الاقتصادي المدهش؟ لا بد هنا من العودة الى الثمانينيات مع اليابان حيث كان الخوف سائدا من الجبار الياباني الذي «سيأكل» كل خيرات العالم. ماذا حل باليابان؟  سقط الاقتصاد وأصبحت اليابان قوة اقتصادية عادية لا توازي ما توهمه البعض خاصة بعض السياسيي.  هل يحدث نفس الشيء بالنسبة للصين وبالتالي يتحجم الدور الصيني العالمي؟ عاملان مهمان يجيبان:

أولا: حصلت المعجزة الصينية جزئيا عبر الهجرة الداخلية من الأرياف الى المدن والى مراكز الانتاج أي المدن الصناعية. استفاد الاقتصاد من عمالة عديدة متوافرة ورخيصة أحدثت الأعجوبة. لم يعد هذا ممكنا اليوم بسبب الهيكلية السكانية حيث ازدادت نسبة المسنين بسبب انخفاض النمو السكاني. منذ 30 سنة، كان عدد الولادات 25 مليونا في السنة، أما اليوم فهو 16 مليون أو أقل. سياسات الولد الواحد أعطت نتائج ايجابية وسلبية. ألغيت لتسمح مجددا للسكان بالازدياد. ثقل الأجور سيرتفع، وهنالك مؤشرات تبين أن التنافسية أصبحت أدنى وبالتالي أصبحت الصين مشابهة لأكثرية دول العالم.

ثانيا: حجم الدين العام الذي يرتفع الى حدود جديدة خاصة اذا ما احتسبنا كل ديون القطاع العام وليس السلطة المركزية فقط. فالقدرة الاستثمارية للصين ستصبح محدودة أكثر مما يجعلها تقارب أوضاع الدول الأخرى. تبقى الصين بالرغم من كل التغييرات دولة تحكم من حزب واحد بل عمليا من رجل واحد هو الرئيس «شي».

تعاني الصين اليوم من العديد من الأمراض التي يشهدها المجتمع العالمي. توسعت فجوة الدخل والثروة كما انتشر الفساد المقنع. هنالك دلائل لترابط الثروة مع السياسة مما يغير دور الصين في الأهداف والوقائع. ارتفاع نفوذ الأغنياء يشير الى تشابه مع روسيا وهو ما ترفضه الصين في عقيدتها، لكن يظهر أنها غير قادرة على منعه. نجحت الصين في تطبيق اللامركزية الادارية والاحصائيات تؤكد عليه. حصة المناطق 40% من مجموع الايرادات الوطنية و73% من مجموع الانفاق، مقارنة بمعدل 9% و 14% في الدول النامية و19% و32% في الدول الغربية.

ما زالت الصين تستهلك الكثير من الوقود مما يشير الى قدم آليات الانتاج والنقل التي تسبب ارتفاعا في مستويات التلوث المحلي كما العالمي. تستعمل الصين خاصة الفحم والقليل جدا من الغاز، وهذا سيتغير مع الوقت مع تطبيق اتفاقية باريس التي انسحب منها الرئيس ترامب وعاد اليها الرئيس بايدن مع تكليفه «جون كيري» بتمثيله فيها. تريد الصين دورا أكبر في الاقتصاد العامي خاصة عبر المؤسسات الدولية الأساسية من بنك دولي وصندوق نقد ومنظمة تجارة. لن يرتاح العالم قبل أن تأخذ الصين دورا دوليا يتناسب مع حجمها الاقتصادي والسياسي.

هل الخوف من الصين مبرر؟ طبعا لا، اذا اعتمدت الدول التوازن في العلاقات. لا يمكن للاقتصاد العالمي أن يتجاهل الصين، فكيف نتجاهله نحن في المنطقة العربية؟ لا خوف ولا قدرة على التجاهل.