بيروت - لبنان

اخر الأخبار

10 آذار 2023 12:27ص لماذا إذلال الليرة؟

حجم الخط
كنا نفتخر لبنانياً وعلى مدى عقود أن الأوروبي والأميركي يعملان بجهد كبير ونحن نستهلك بترف وسهولة. كان اللبناني يعيش بأوضاع معيشية أفضل من الغربي وكان العالم يعجز عن تفسير هذه العلاقة. كان الغربي والشرقي والمواطن العربي حتى في الدول الغنية يتفاجأ كيف كنا نعيش في لبنان في بحبوحة لا يتمتع هو بها بالرغم من أن اقتصادنا لم يكن متنوعا، بل إن انتاجيتنا ضعيفة وفعاليتنا متدنية. أتت حرب 1975 لتحدث شرخا كبيرا في المسيرة الاقتصادية، حيث تبين للعالم وللبناني أن الركائز التي بني عليها اقتصادنا كانت ضعيفة أي صناعة وزراعة متواضعتان مع قطاع ثالث قوي ميز لبنان لعقود. هبط الاقتصاد بقوة منذ تلك الفترة ولم تنجح كل السياسات وحكومات بعد الطائف في تصحيح الخلل البنيوي القطاعي.
في أوضاعنا الاقتصادية الصعبة، هنالك ضحية أساسية تنتج عن المأزق السياسي الدستوري. أين يصرف الشغور الرئاسي والشلل الحكومي والتعطيل البرلماني والتخبط المؤسساتي؟ يصرف عمليا في سقوط الليرة الى حدود لم نعرفها تاريخيا. تكمن المشكلة في أن الجميع في الداخل والخارج ينظر الى سعر صرف الليرة تجاه الدولار وكأنه هو المشكلة، بينما هو خلاصة الأزمة بل نتيجة التأزم غير المسبوق في عمل القطاع العام. ما يجري اليوم هو تعطيل عمل الليرة كنقد وطني علما أنها شكلت وجه لبنان في أفضل أيامه وأيضا في أيامه الصعبة. أما السياسات الاقتصادية الحالية، فلا بد من وصفها بالمتخبطة والمترددة أي لا ترتكز على منطق واضح يمكن الدفاع عنه.
نتجت حركة 17 تشرين 2019 عن سوء الاداء السياسي وغياب الديموقراطية الحقيقية التي نحلم بها،كما عن عدم احترام المواطن بل معاملته بالطرق التي يرفضها والتي أسست للغضب الشعبي المستمر. تعودنا في لبنان على تجاهل المحاسبة وما هي قضيتا انفجار المرفئ واختفاء الودائع الا لتؤكدا على ذلك. استسهلت الطبقة السياسية التي ادارت البلد معاقبة البريء وتجاهل حقوقه وبالتالي لم يستطع المواطن الاتكال على قطاعه العام حتى في أبسط الحقوق المدنية. ها نحن نشهد اليوم ما لا يتقبله أي انسان وأي منطق وهو رفض شهادة مسؤول ومواطن أمام القضاء دون أي حسيب أو رقيب. بعض السياسيين يحمون من يستقوي على القضاء وبالتالي أصابوا سمعته كما ثقة الموطن بدولته ومؤسساته. كل هذه الأمور انعكست سلبا على الليرة وأصابت وهجها وقيمتها في الأسواق. كيف يمكن لانسان أن يطلب الليرة في ظروفنا الحالية بل يعرضها مقابل الدولار أو غيره من النقد. في الاقتصاد هذه هي أبسط قواعد العرض والطلب.
ما هي أهم السياسات التي يجري التخبط معها والتي تساهم في تعميق الأزمة وسقوط الليرة؟
أولا: سياسة الأجور حيث يتركز الضغط الشعبي المبرر على ضرورة رفعها بالاضافة الى زيادة المنافع كي يستطيع الانسان العيش بكرامة. تكمن المشكلة انه في غياب العرض أي النمو تنعكس هذه الزيادات ارتفاعا في مؤشر الأسعار يأكل الزيادات ويعيدنا الى الوراء. فالمشكلة هي واحدة ذات حدين، أي نخسر اذا رفعنا الأجور والمنافع ونخسر أيضا اذا لم نفعل ذلك. لا يمكن لصاحب الأجر أن يحسن وضعه المعيشي في ظروف سوداء كالتي نعيش فيها. من الأفضل أن يتوجه الضغط الشعبي نحو حل المشاكل السياسية التي نعاني منها والتي يمكننا حلها وفي مقدمها انتخاب رئيس للجمهورية بالطريقة الديموقراطية التي نص عليها الدستور.
ثانيا: سياسة الضرائب حيث ليس منطقيا أن نرفعها في ظروف انهيار أو سقوط، اذ بسبب شلل الحركة الاقتصادية والادارية لن تنجح الجباية وبالتالي تقضي الزيادات الضرائبية من جمرك وغيرها على ما تبقى من حركة صحية. لا شك أن تحصيل الضرائب الحالية على الشركات المربحة مهم جدا للمال والعدالة ويجب أن لا تتهاون وزارة المال بها. أما تحصيل رسوم الخدمات فيجب أن يكون أسرع كي تستمر، اذ لا حياة عصرية من دونها.
ثالثا: سياسة الإنفاق العام الذي يجب ترشيده وليس وقفه. من الأمثلة السهلة الانفاق على صيانة الطرق وتحسين ظروف استقبال المسافرين من والى المطار واضاءة بعض الطرق الأساسية وغيرها. يجب أن يستمر أيضا الإنفاق الاجتماعي الأساسي من صحي وتعليمي في المؤسسات الرسمية التي يظهر أننا سنتوجه اليها أكثر فأكثر بسبب التكلفة الباهظة المتزايدة لمختلف الأقساط.
رابعا: التسعير بالدولار وهذا يسهل مقارنة الأسعار بين الشركات المتنافسة، إنما العبرة تكون في أي سعر صرف يعتمد وكيف يتغير خلال النهار. الدفع بالليرة حق، لكن اعتماد سعر صرف واحد في كل مؤسسات البيع أساسي كي لا تسرق حقوق المواطن في أبسط مهمات التسويق.
خامسا: السياسة النقدية التي أخطأت كثيرا خلال العقود الفائتة ولا بد من المحاسبة، لكن المشكلة اليوم لم تعد نقدية بل أكبر وأخطر وبالتالي الحل لا يأتي منها. فالسياسة النقدية تخفف الأوجاع ولا تستطيع انقاذ الاقتصاد المريض المتألم من ادارة سياسية سيئة وفساد كبير وسوء معاملة للمواطن في أبسط حقوقه المدنية.
سادسا: المصارف والودائع حيث ما زلنا ننتظر مشروع الاصلاح القطاعي الذي يعيد الثقة في المصارف. لكن الخط الأحمر الساطع هي الودائع نفسها، حيث لا يمكن المس بها كبيرة كانت أم صغيرة. أي مس بالودائع يقتل دور لبنان المالي والمصرفي لعقود طويلة قادمة ويؤذينا، بل الأهم يؤذي لبنان المستقبل والأجيال القادمة المتعلقة جدا ببلدها.
باختصار، الليرة ليست هي المشكلة بل الضحية اذ تتأثر سلبا بكل ما يجري من «جنون» في البلد. فلنضغط شعبيا لوقف الجنون وتحمُّل المسؤوليات. لا يمكن أن نستمر في معاقبة الضحايا في لبنان بل نبدأ في اعتماد المحاسبة القاسية العادلة حتى في هذه الظروف القاتمة.