تدنّى طموحنا نتيجة الظروف السلبية المختلفة. كنا نتكلم منذ أشهر عن برامج السفر والتسلية واللهو، وأصبحنا اليوم نحاول جهدنا أن نبتعد عن الكورونا وأن نستمر بالعيش بأدنى الرفاهية الممكنة. تغير العالم كثيرا خلال السنة الماضية وربما لن نعود الى ما كنا عليه حتى عندما يصبح الطعم ضد الكورونا موجودا وموزعا. دوليا، ما يشغل العالم هو عدد الاصابات الكورونية اليومية وعدد الضحايا ولم نعد نهتم بالبطالة والنمو والتضخم. القطاع السياحي يعاني والافلاسات الكبرى على الأبواب، ولم يحصل ذلك حتى اليوم لأن الشركات المختلفة ترشد إنفاقها الى أقصى الحدود حتى تستطيع الصمود أطول مدة ممكنة. قطاع النقل والطيران خاصة كما كافة القطاعات السياحية من فنادق وملاهي تعاني كما لم يحصل حتى خلال الحروب. سكان العالم يحلمون بالعيش المعقول والمقبول فقط، اذ غاب الطموح وتدنى مستوى الفرح وأصبحت التجمعات استثناءات نحاول جميعا تجنبها خوفا من الوباء المؤذي.
في هذه الظروف، أصبح العالم أصغر من السابق بفضل وسائل الاتصالات التي تعززت في كل الميادين خاصة التربية والتعليم. أصبحت مشاكل العالم متقاربة في السوء والعمق ولم يعد الفارق في المستوى المعيشي كبيرا كالماضي. عندما نرى صفوف السيارات تقف لتتزود بالمأكولات في أهم المدن الأميركية، نشعر أن أوضاعنا تصبح بالمقارنة مقبولة. عندما نرى صفوف المرضى في الشوارع وفي ممرات المستشفيات في أوروبا، نحزن عليهم ومعهم على المستوى الذي وصلت اليه العناية الطبية والاستشفائية في أهم الدول. عندما نقارن الظروف التي عشنا فيها بالظروف التي تعيش فيها الأجيال الجديدة الحالية، نشعر أننا ربما كنا محظوظين لأننا رأينا العالم كما لن يروه هم. هذا ما تشير اليه الوقائع والمعلومات المتوافرة.
ما الذي تعاني منه المجتمعات اليوم والذي يسبب الكثير من الجنون والتطرف في كافة الدول؟ ما الذي يدفع الانسان الى العنف تماما كما حصل مع «جورج فلويد» في الولايات المتحدة ومئات بل آلاف الحوادث المماثلة. ما الذي سبب انخفاض تحمل أو قبول الآخر في كل المجتمعات؟ لماذا أصبح التحجر الفكري بل اقفال الأذن الطرق الفضلى المتبعة في المجتمعات؟ الضيق المادي والفكري التي سببت به التطورات الصحية والاقتصادية يؤثر على الواقع بل على المستقبل المعيشي. الايرادات المالية متوافرة عالميا لكن ما ينقص هي الأفكار الجديدة الجيدة والرغبة في التنفيذ بطرق ومعايير فذة. ما ينقصنا هو الرغبة بتنفيذ الاصلاحات مع احترام الآخرين خاصة الذين ليس لديهم المادة الكافية للعيش كما يرغبون. أسباب القلق الانساني العالمي متعددة ويمكن اختصارها كما يلي:
أولا: الهجرة والرغبة بها مهما كانت التكلفة. أن يأخذ الانسان زورقا صغيرا محملا فوق طاقته بأضعاف العدد والذهاب به عبر البحور الهائجة الى أوروبا أو غيرها هو أهم الدلائل على اليأس الذي يعيشه بعض الناس. الهجرة غير الشرعية مشكلة كبيرة للدول المصدرة والأخرى المستقبلة لأن هذا العدد غير مرغوب به في الاتجاهين وبالتالي يتعرض الوافدون الى سوء الاستقبال بل الى المعاملة التي تكون غير انسانية في العديد من الحالات. لا ننكر أن الهجرة في بعض الأحيان مفيدة للدول المستقبلة لأنها تؤمن اليد العاملة في قطاعات لا يرغب بها المواطن العادي. الا أن الهجرة في معظمها غير مرحب بها لأسباب اقتصادية واجتماعية وسياسية وبالتالي هنالك نفور أو غضب تجاه المهاجرين غير الشرعيين.
ثانيا: فجوة الدخل والثروة التي كبرت مع الوقت خلال العقدين الماضيين والتي قتلت طموح الشباب والشابات الذين كانوا يحلمون في الماضي بتحسين أوضاعهم المادية. أتت هذه الفجوة المتزايدة من العولمة العنيفة التي أطاحت بالمقصرين والمهملين والكسولين والمتقاعسين. كانت للعولمة فوائد كبرى، لكن المساوئ كانت كبيرة أيضا خاصة تجاه الضعفاء أو تجاه من لم يكن مستعدا أو جاهزا للمنافسة الكبيرة المفتوحة عالميا.
ثالثا: التقدم التكنولوجي الهائل الذي حصل في العقدين الماضيين والذي لم يكن ممكنا استيعابه من قبل أكثرية سكان العالم. التقدم الهائل في الاتصالات وفي العلوم المخبرية والبيولوجية والانسانية والاجتماعية وغيرها قضى على من لا يملك القدرة الاستيعابية لجميع أو بعض هذه العلوم. من لم يستوعب خسر ولا مكان للتخبي أو لتجاهل التقدم. عالميا من لا يتابع تطور المجتمعات يوميا يصبح متخلفا بل مقصرا خلال ساعات فقط. القدرة على استيعاب التكنولوجيا المتطورة يوميا ليست متوافرة للجميع وبالتالي يشعر الانسان أن مجتمعه أقصاه أو أخرجه من التفاعل الضروري مع بقية المواطنين والمؤسسات.
رابعا: التغير المناخي أثر سلبا على صحة الانسان ورفاهيته خاصة وأن القدرة على المواجهة ضعيفة وتتطلب تغيير نمط الحياة المدنية. للتغيير المناخي أوجه عدة منها التلوث والنفايات وحسن استعمال الموارد المتوافرة من مياه وهواء وغيرها. الدول النامية عاجزة عن المواجهة لعدم توافر الايرادات والقدرات المادية والانسانية المناسبة. الدول الغنية بنت اقتصاداتها على التلوث لهدف النمو السريع وتحقيق التنمية. هنا تكمن أهمية فكرة «التنمية المستدامة» أي تحسن المعيشة مع احترام البيئة ونوعية الحياة. لكن هذا يتطلب الوقت والاستثمارات، واليوم أتت الكورونا لتحول الاهتمامات الى مواضيع أخرى مستعجلة لا تقل أهمية.
خامسا: النمو حيث النجاح في تحقيق نسب عالية كما حصل بعد الحرب العالمية الثانية لم يعد ممكنا. لذا مع تزايد النمو السكاني في العديد من الدول النامية والناشئة تحصل مشكلة معيشية تعالج بصعوبة بالرغم من النيات الحسنة. العودة الى النمو القوي يتطلب عودة القطاعات الى العمل بطريقة طبيعية وهذا ليس ممكنا اليوم. ضعف النمو وغيابه أحيانا يؤثر على مستويات الفقر وعلى كل المعايير الانسانية والصحية والاجتماعية.
لا شك أن هنالك تقصيراً اقتصادياً في المواجهة. أقصد هنا أن الخبرات الاقتصادية في معظم الأحيان كانت مدعية للخبرة ولم تحسن ايجاد الحلول المناسبة والتوجه بها الى الرأي العام. هذا الواقع أفقد الاقتصاديين عموما ثقة المجتمعات التي لم تعد تستمع اليهم والى حلولهم المقترحة لكافة المشاكل. هنالك ضرورة لعودة الخبرات الاقتصادية العلمية الكفؤة الى الساحة كي تعود ثقة المجتمعات بهم وبما يقترحون.
أخيرا في الدول العربية، المعاناة كبيرة والقطاعات الاقتصادية متعثرة خاصة في النقل والسياحة وتؤثر سلبا على التحويلات الى الدول المصدرة للعمالة. انخفضت هذه التحويلات الاقليمية 23% خلال النصف الأول من هذه السنة. المطلوب في هذه الظروف القاسية دعم الاقتصادات الوطنية تخفيفا للهجرة غير الشرعية حيث يجب أن يبقى الأمل بالرغم من كل شيء.
الدكتور لويس حبيقة