بيروت - لبنان

اخر الأخبار

3 شباط 2021 08:00ص مبادرة سياسية لبناء الدولة و«اليقين الوطني»

حجم الخط
قرأت قبل أيام معدودة مقالة للرئيس فؤاد السنيورة، نشرت في صحيفة «اللواء» بعنوان «مبادرة للعيش المشترك والدستور والانقاذ الوطني»، عبّر فيها عن نظرة ثاقبة وواقعية سياسية، يشهد له بها، عن رؤيته للأوضاع السياسية ولسوء الأداء الحاصل في فهم الدستور وتطبيق اتفاق الطائف، وبدأ الرئيس السنيورة مقالته بالقول: تسيطر على المشهد اللبناني الراهن، لا سيما في السنة الخيرة، وبالأخص مع الاستعصاء القائم في تشكيل جديدة - تسيطر حالة من «اللايقين الوطني» غير مسبوقة حتى في أيام الحروب الداخلية. وهذا في ظل انعدام وتدافع شرس بين المكونات السياسية الطائفية، وبالتزامن مع انهيارات كارثية اقتصادياً ومالياً ونقدياً ومعيشياً ومؤسساتياً تنذر بفوضى اجتماعية عارمة وانهيار شامل.
نعم دولة الرئيس لقد أصبت بربطك المأساة التي يواجهها لبنان الدولة والوطن بحالة «اللايقين الوطني»، والتي شكلت عبر العهود، ومنذ الاستقلال إلى اليوم مصدر كل الأزمات التي تتالت وتناسلت، وتسببت بكل الاهتزازات السياسية وما نتج عنها من تصدعات أمنية وحروب داخلية.
بدأت حالة «اللايقين الوطني» في العهد الاستقلالي الأوّل، في زمن الرئيس بشارة الخوري والذي تكرست خلاله سياسة الاقطاعيات السياسية العائلية، والتي لم تسعَ لتوحيد الوطن وبناء دولة الاستقلال التي من المفترض ان تزرع بذور الوطنية والوحدة في نفوس المواطنين، وتحقق العدالة والمساواة بينهم، بل قبلت وشجعت على ان لا يتعدى حيّز لبنان الجغرافي المستقل على بيروت وجبل لبنان. ورأى العهد الأوّل بأن الأولوية تبقى للتحالفات العائلية في تقاسم السلطة والنفوذ وتحقيق المكاسب الآنية على حساب دور الدولة الجامعة والقادرة والعادلة. وادت حالة «اللايقين الوطني» إلى اهتزازات سياسية وتحركات شعبية ضد الرئيس بشارة الخوري، والتي انتهت باستقالته، وتعيين حكومة انتقالية برئاسة قائد الجيش اللواء فؤاد شهاب.
لم يكن أداء عهد كميل شمعون على الصعيد الوطني والسياسي بأفضل من العهد الذي سبقه بالرغم من الأداء الاقتصادي المتميز، مع توسيع ورشة التجهيز وبناء المؤسسات والبنى التحتية، فقد اعتمد الرئيس شمعون خيارات سياسية دون إعادة الاهتمام اللازم لتكوين وصيانة «اليقين الوطني» سواء من أجل مراعاة التوازنات السياسية الداخلية أو من الحفاظ على لبنان كعضو عامل وفاعل في محيطه العربي. وأدت حالة «اللايقين الوطني» على المستويين الداخلي والعربي إلى اندلاع ثورة 1958. 
جاء عهد الرئيس فؤاد شهاب ادراكه العميق لضرورة العمل على بناء دولة مؤسسات  حديثة تعمل لصالح كل اللبنانيين، في ظل خيارات سياسية تؤمن التوازن الوطني وفي علاقات لبنان العربية والدولية. لكن سرعان ما برزت قوى سياسية معارضة لمشروع الدولة، لتعيد حالة «اللايقين الوطني» التي سعى فؤاد شهاب إلى التخلص منها من خلال مؤسسات الدولة الحديثة التي أنشأها. أدى الحلف السياسي في النهاية إلى رفض شهاب للتجديد لولايته، وبالتالي العودة إلى التجاذبات السياسية من اجل استعادة روح ونفس الاقطاع السياسي إلى الحكم. وشكلت السنوات الأولى لعهد الرئيس شارل حلو امتداداً للعهد الشهابي وذلك بسبب النفوذ الذي تمتع به المكتب الثاني في قيادة الجيش. لكن أدّت التطورات التي نتجت عن نكسة حرب 1967 إلى الدخول الفلسطيني المسلح إلى لبنان، ومواجهة أزمة تشكيل الحكومة والتي دامت لأشهر عديدة، حيث انتهت بعد توقيع اتفاق القاهرة. في الواقع مثلت أزمة تشكيل الحكومة في عهد الجمهورية الأولى، التي كان يتمتع فيها رئيس الجمهورية بسلطات مطلقة، الخلل العميق والمتآكل لدى الطبقة السياسية في مفهومي الوطن والسلطة. اختلف اللبنانيون في ما بينهم حول الحفاظ على وطنهم او استعادة الوطن السليب في فلسطين، كما عطلوا آليات تشكيل حكومة قادرة على إدارة الشأن العام وتحقيق مصلحة النّاس وتأمين الاستقرار العام. وشكلت هذا الوضع السياسي المترهل حالة «اللايقين الوطني» بكل معانيها وأبعادها.
وجاء عهد الرئيس سليمان فرنجية في ظل تجذّر الدويلة الفلسطينية في لبنان بعد طرد المقاومة من الأردن، واستمرت وتعمقت في ظل الظروف الداخلية والتطورات الإقليمية والدولية حالة «اللايقين الوطني» عند اللبنانيين فظهرت حركات وتيارات سياسية وميليشيات مسلحة تدعو لمشاريع تقسيمية متنوعة طائفية ومذهبية، ومرتهنة لقوى خارجية في اغلبها. وانتجت هذه الحروب والانقسامات في ظل ارتهان الجماعات اللبنانية المتحاربة لدول الجوار إلى غزو إسرائيلي وصل إلى بيروت، وبالتالي خوض حرب إسرائيلية ضد الجيش السوري والمقاومة الفلسطينية الموجودين على الأراضي اللبنانية. وسيطرت خلال هذه المرحلة القاسية حالة «اللايقين الوطني» في ظل الحروب التي خاضها اللبنانيون مرتهنين للقوى والمصالح الخارجية، بالرغم من علمهم بمسعى هذه القوى لتفتيت لبنان وزواله.
جاء اتفاق الطائف ليؤسس لجمهورية ثانية ودستور جديد، وذلك ضمن تسوية توافقت عليها القوى الإقليمية والدولية كمدخل لإنهاء الحروب الداخلية، وأعادت تكوين مؤسسات الدولة. لكن مع الأسف الشديد فقد خضع تطبيق الطائف ودستوره لوصاية سورية، عملت علناً على تكييف النصوص وارادات وقرارات مختلف القائمين على الدولة في جميع مؤسساتها الكبرى وفي القضاء والأمن وصولاً إلى علاقات لبنان الخارجية، وهكذا سيطرت حالة «اللايقين الوطني» على الدولة والمجتمع، وبرضى وتأييد من المجتمع الدولي هذه المرة. وبلغت حالة «اللايقين الوطني» ذروتها من خلال تنفيذ سلسلة كبيرة من الاغتيالات السياسية التي طاولت شخصيات سياسية وروحية ووطنية، رفضت الطاعة وخدمة قوى الوصاية ومشروعها لتذويب لبنان في المشروع البعثي السوري.
خرج السوريون بقرار دولي وضغط شعبي من لبنان بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري، لكن دون ان يعي اللبنانيون أهمية وضرورة الاستفادة من تلك الفرصة التاريخية لإعادة توحيد صفوفهم وتجنيد اراداتهم لإعادة بناء دولتهم من خلال تطبيق الدستور وروح الطائف، وبالتالي استرجاع يقينهم الوطني وثقتهم بقدرتهم على بناء دولتهم العادلة والسيدة. وهكذا كان الانقسام الكبير بين 8 و14 آذار، فيتحول البلد إلى ساحة صراعات سياسية رافقتها اهتزازات أمنية وحرب مدمرة مع إسرائيل، كادت تطيح بكل أسس التسوية التي جاء بها اتفاق الطائف.
ما شهده ويشهده لبنان في ظل العهود الثلاثة الماضية من سوء إدارة الحكم وتفشي الفساد والارتهان للخارج وتقديم مصالحه على المصالح الوطنية بما في ذلك في الشأنين الأمني والاقتصادي يُؤكّد على استمرارية وتعميم حالة «اللايقين الوطني»، وتطرح هذه الحالة من الممارسات الوطنية غير المسؤولة والمتعارضة كلياً مع الدستور، ومع أقل المعايير الوطنية والاخلافية تساؤلات حول مدى قدرة وقابلية الطبقة السياسية الراهنة على إدارة الشأن العام، وإنتشال لبنان من ازمته الخطيرة الراهنة. كيف يمكن ان نثق بعد اليوم بالذي يُرهن نفسه ويرهن أرواح اللبنانيين لخدمة محور سياسي خارجي، على حساب الدستور والقانون وسيادة لبنان.
أدى تكريس حالة «اللايقين الوطني» منذ الاستقلال إلى اليوم إلى نبذنا وعزلنا وفقدان ثقة الأشقاء والأصدقاء بقدرتنا على بناء دولة، أو حتى تشكيل حكومة تأخذ على عاتقها مهمة تطبيق الإصلاحات المطلوبة منا عربياً ودولياً كشرط للحصول على المساعدات اللازمة لانتشالنا من الورطة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وحتى الأخلاقية التي نحن غارقون فيها.
نحن في الواقع لسنا بحاجة لتشكيل حكومة مهمة، تدير البلاد وتطبق الإصلاحات المطلوبة خلال فترة ستة أشهر، وفق التوصيف الذي قدمه الرئيس سعد الحريري، نحن بحاجة لحكومة إصلاحية تتشكل من الحكماء وأفضل الاختصاصيين، تعمل على بناء مفهوم سياسي جديد في السلطة، يقوم على قواعد أساسية أبرزها:
أولاً، احترام الدستور والقانون والعمل على تحقيق المصالح العليا للدولة وللشعب اللبناني، وبعبارة أخرى «العودة إلى الكتاب» قولاً وفعلاً، وفق ما كان يردده الرئيس فؤاد شهاب.
ثانياً، العمل على بناء «اليقين الوطني» والذي يعني الإيمان بلبنان الوطن والدولة، وتخلي جميع الأحزاب والقوى والطوائف عن حق السيادة للدولة وتحقيق حياد لبنان من خلال تطبيق إعلان بعبدا ومبادرة البطريرك الراعي.
ثالثاً، العمل بسرعة على إعادة تفعيل دور وعمل مؤسسات الرقابة التي بناها العهد الشهابي من أجل ضبط الأداء العام لجميع مؤسسات الدولة، والعاملين فيها، وإطلاق يد هذه المؤسسات وفق ما كان يقوله الرئيس شهاب «خلوهم يشتغلوا هم بيعرفوا وظيفتهم». اما بشأن الحكومة العتيدة فالمطلوب ان لا يقتصر دورها على حكومة «مهمة» بل ان تأخذ دور الحكومة الإنقاذية إلى جانب تحقيق الإصلاحات الملحة المطلوبة.
في رأينا لا بدّ أن تأخذ الحكومة الإنقاذية على عاتقها التحضير للانتقال لمرحلة ما بعد عهد العماد عون والتحضير فعلياً، ودون أية مساومات داخلية أو خارجية لاحترام الاستحقاق الرئاسي في موعده الدستوري.
كما يقتضي التحضير لإعادة تكوين السلطة والطبقة السياسية من خلال التحضير لانتخابات عامة، وفق قانون يحترم ما نص عليه الطائف باعتماد المحافظة بعد إعادة النظر برسم حدود وعدد المحافظات المعتمدة في العملية الانتخابية. لا يمكن الاستمرار باعتماد القانون الانتخابي الحالي، لأن هذا القانون سينتج مجلساً نيابياً يكون عبارة عن مجموعة زواريب سياسية، شعارها الدفاع عن «حقوق» الطوائف والمذاهب كذريعة لسياسة المحسوبية واستمرار تكريس الممارسات الفاسدة على حساب المواطنين والحكم الرشيد.
في النهاية لم يعد يكفي ان ندافع عن الطائف، بل يجب تضافر الجهود لتطبيقه وخصوصاً لجهة تطبيق المشروع الخاص بإلغاء الطائفية السياسية، والعمل فعلياً على بناء دولة المواطنين لتحل مكان الدولة الطائفية. وفي رأينا يمكن اعتماد الخطوة الأولى على هذا الطريق من خلال عمل الحكومة المقبلة على إعادة تكوين السلطة بشكل عملي ومتوزان يأخذ بعين الاعتبار المصلحة اللبنانية على حساب كل مصالح الدولة والمحاور الخارجية.
هذا هو السبيل لبناء حالة «اليقين الوطني» اللازم لبناء الدولة الصلبة والقادرة والعادلة.