بيروت - لبنان

اخر الأخبار

29 تموز 2022 12:05ص منطقة اليورو نموذج؟

حجم الخط
بعد سنوات من الممارسة والتجارب والتحديات آخرها خلال الحرب الأوكرانية، هل تعتبر الوحدة النقدية الأوروبية ناجحة ومن استفاد منها؟  الدول القوية أم الضعيفة؟ هل تعتبر الوحدة نموذجا لمشاريع الوحدات الاقليمية ومنها العربية؟  ترتكز الوحدة النقدية الأوروبية على اليورو ومصرف مركزي يشرف عليه من فرانكفورت. أبقيت معظم السياسات الأخرى وطنية خاصة المالية. لم يصبح اليورو بعد وكما كان متوقعا نقدا أساسيا بل يبقى ثانيا عن بعد وراء الدولار. عبر معايير عدة لم يأخذ اليورو بعد حتى الدور الذي لعبه المارك الألماني أو الفرنك الفرنسي قبل الوحدة.
يمكن تقسيم منطقة اليورو الى قسمين أي مجموعة المارك زائد الباقي. مستقبل اليورو لا يعتمد فقط على السياسات الداخلية وانما خاصة على رغبة أسيا والصين تحديدا في اعتماده كمنافس أو بديل للدولار في التبادل النقدي والمالي والتجاري العالمي.  فهل أسيا مستعدة لخوض هذه المعركة أم تفكر هي في جعل نقدها الياباني أو الصيني يلعب هذا الدور؟  أظهرت العقوبات المتنوعة المفروضة على روسيا قبل ومع الحرب الأوكرانية مجددا أهمية الدولار عالميا.
يمكن وصف النمو الأوروبي بالبطيء مع مستويات دين عام مرتفعة وتنافسية تحتاج الى تطوير لمواجهة الولايات المتحدة والدول الأسيوية خاصة الصين.  في 2022، متوقع نمو مجموعة اليورو هو 4,3% مقارنة ب 5,2% للولايات المتحدة و5,6% للصين و 8,5% للهند.  64% من الاحتياطي النقدي العالمي محرر بالدولار و 21% فقط باليورو.  أما في البورصات فمجموعها في منطقة اليورو لا يصل الى ربع حجم البورصات الأميركية.  حتى الصين تتفوق على أوروبا في حجم البورصات.  هنالك 59 دولة تربط نقدها بالدولار مقابل 29 لليورو.  في الديون الخارجية للدول النامية، 74% محررة بالدولار و8% باليورو.  في مجموعة كبيرة غنية، كان لا بد للنتائج من أن تكون أفضل بكثير.
هنالك 180 نقداً في العالم.  الدولار يسيطر كما كان حال الليرة الاسترلينية قبل الحرب العالمية الثانية.   للدولار وجود عالمي واضح بينما تقتصر سيطرة اليورو على أوروبا.  في الدول النامية والناشئة، 61% من التبادل يجري بالدولار و 31% باليورو. لم يعد يكفي الكلام اليوم عن النقد التقليدي لوصف العلاقات الدولية بعد دخول العملات المشفرة والرقمية كالبيتكوين الى الساحة. العالم يتطور خارج الرقابة النقدية الكلاسيكية وباتجاه أسواق أوسع وأكثر خطورة.
في الاقتصاد ليست هنالك أمثلة مثالية، بل لكل مشروع حسناته وسيئاته.  في سنة 2008 كان الناتج المحلي الايطالي يساوي 90% من الألماني وانحدر الى 73% اليوم.  أما الاسباني، فانحدر في الفترة نفسها من 78% من الالماني الى 64%.  نفس الاتجاه حصل مع البرتغال واليونان أي مع الدول الأربع التي تعتبر متقلبة، مؤسساتها وإن تكن ناضجة ليست قوية بل ذات مخاطر عالية.  هذه الدول الأربع وإن تحسنت أوضاعها، خسرت نسبيا تجاه الدولة الأغنى أي ألمانيا.  فالوحدة النقدية الأوروبية لم تؤد الى التقارب الاقتصادي بين الدول الغنية والفقيرة وان نمت جميعها.
في الوحدة النقدية الأوروبية بقيت النشاطات الأساسية أي ذات المردود العالي في دول الشمال بينما تركزت النشاطات الثانوية في دول الجنوب الفقيرة نسبيا. تطبيق نفس القواعد على كل الدول في وحدة نقدية ربما أضر في غياب حرية التجول لرؤوس الأموال.  كان المطلوب وضع برامج انفاق عام أوروبية كما خلق نظام دين عام أوروبي.  فالواقع يشير الى أن الدول الغنية تتمتع في نفس الوقت بنسب توفير عالية كألمانيا والنمسا وهولندا وبالتالي ليس لها دافع لتحويل أموالها الى الجنوب.  لذا بقيت مؤشرات التنمية مختلفة والفجوة واسعة.
حتى أزمة 2008\2009، موَّلت الدول الغنية العجز المالي في الدول الأقل غنى بدل أن تمول الاستثمارات التي تخلق النمو.  بعد 2009، توقف التمويل من الشمال الأوروبي الى الجنوب بسبب الأزمة، فاضطرت تلك الدول للاستدانة الخارجية وبالتالي حلق الدين العام الى مستويات لم تعرفها سابقا.  أين المشكلة؟  دول الجنوب تحتاج الى الأموال للاستهلاك وللاستثمار أيضا.  طبقت التقشف القاسي لكن ما أسعفها هي سياسات المصرف المركزي الأوروبي أي سياسة التيسير الكمي عبر شراء السندات من الأسواق مقابل النقد.  هذه حلول جزئية غير كافية في غياب تدفق الاستثمارات من الشمال الى الجنوب لتخفيض البطالة وزيادة النمو. عمليا المطلوب من ألمانيا أن تزيد انفاقها واستثماراتها لأنها الوحيدة القادرة على الانقاذ حتى مع أزمة الغاز الحالية التي لا بد وأن تنتهي مع الحل الأوكراني.
اذا تركت أي دولة مدينة منطقة اليورو، ماذا يحصل؟  سقوط عملتها الوطنية وزيادة ديونها المحررة أصلا باليورو.  الخروج من منطقة اليورو يعني أيضا امكانية اعتماد سعر صرف حر لزيادة الصادرات مع تطبيق سياسات حمائية قوية والغاء التقشف المالي، لكن هذا يؤدي الى الفقر والتأخر في التنمية.
تركت بريطانيا الوحدة الأوروبية ووقعت اتفاقية تجارة وتعاون مع أوروبا، لكن المشكلة الايرلندية تظهر من جديد لصعوبة ابقاء التقسيم الحالي بعد البريكسيت.  تحاول بريطانيا تعديل الاتفاقية من جانب واحد مما يخلق مشكلة جدية مع الوحدة التي ترفض أي تعديل.  تعاني بريطانيا اليوم من عدم توافر السلع في الأسواق ومن تعثر التجارة مع أوروبا، لكن الرجوع الى الوراء غير ممكن.  أزمة 2008\2009 عصفت بقلب بمنطقة اليورو وأخرت نموها والثقة بها خاصة وأن المعالجات غير مقنعة.  الحل للدول الأعضاء هو البقاء في الوحدة مع بعض الاصلاحات:
أولا:  تحرير رؤوس الأموال كي تتحرك للاستثمار من دول الفائض الى الدول العاجزة.  يجب تنسيق معظم السياسات خاصة المالية لتخفيض تكلفة الانتاج ومعالجة قيمة الأجور كما مختلف سياسات الانفاق والضرائب.  المطلوب بعض التفكير الفيديرالي في وحدة نقدية قوية.
ثانيا:  اتفاق مالي بين الدول الغنية والأقل غنى لرفع مستوى المعيشة.  تطوير الأسواق والأصول المالية والسندات المحررة باليورو يجب أن يكون من الأولويات كي تصبح الوحدة النقدية سوق كاملة.  ما يعيق تطوير السوق المالية الأوروبية هي الضرائب التي تبقى أعلى من المنافس الأميركي كما غياب التشريعات المشتركة.
ثالثا:  رفع الانتاجية خاصة في دول الجنوب عبر سياسات لا تقتصر على التعليم والتدريب وانما تصل الى مختلف القوانين الوطنية.  ربما تحتاج دول الجنوب الى الخبرات التقنية من الشمال ليس فقط في المال والاقتصاد وانما خاصة في العلوم والتكنولوجيا كي تتوحد التنمية.
دروس مهمة ربما تفيدنا عربيا اذا قررنا بناء وحدة نقدية.  هذا حلم، لكن الأحلام تتحقق أحيانا.