بيروت - لبنان

اخر الأخبار

11 كانون الأول 2020 12:02ص هل محاربة الفقر أولوية؟

حجم الخط
يتغير العالم كثيرا ليس فقط بفضل التكنولوجيا، ولكن اليوم خاصة مع الكورونا التي غيرت المسافات والعلاقات وطرق العمل كما التواصل الاجتماعي. يقول الاقتصاديان «بانرجي» و«ديفلو» اللذان حازا على جائزة نوبل للاقتصاد السنة الماضية أن العالم يحتاج بشكل متواصل الى أفكار جديدة للتقدم. للأفكار الجديدة قوة دافعة كبيرة للتغيير، ويجب العمل لتطبيقها حتى لو كانت مكلفة. يجب أن يبتعد العالم عن المثاليات الخيالية ويلجأ الى المثاليات الواقعية. يقول الفيلسوف «جون لوك» أن الحرية هي أهم عامل للتقدم. الشعب الحر هو الذي يختار تحركاته في النوعية والعمق والتوقيت ويغيرها كلها عندما يشاء. كي تحترم هذه الحريات، يقول لوك، يجب أن تكون الدولة قوية وكذلك المجتمع. يحتاج الانسان الى الأمل الواقعي للتطور، أي الى تصور مستقبل أفضل. التشاؤم واليأس يقتلان، ولا تقدم اقتصادي أو حياتي في مجتمع يائس.

تطور العالم في العقود الماضية وأصبحت الحياة أسهل والتحديات أكبر. ما زال الفقر موجودا، الا أن الخبراء يختلفون حول أسبابه أي هل هي عقلية أم مادية أم بسبب غياب الفرص؟ قال «ميلتون فريدمان» أن الفقير هو الذي ليس لديه مال كاف. قالت «مارغريت تاتشر» أن أسباب الفقر هي نقص في ميزات الشخص، وبالتالي لا قدرة له على جني المال. تتوجه العلوم الاقتصادية في محاربة الفقر الى ما قاله فريدمان ليس فقط بسبب العقيدة، وانما خاصة بسبب الممارسة والتجارب.

في 82% من التجارب العملية في الدول النامية، توفير المال للفقراء ساهم بشكل مؤكد في تخفيف استهلاكهم للدخان والمشروبات المضرة وفي عدم القيام بتجارة الممنوعات. في ليبيريا، أعطي كل فقير مدمن 200 دولار لدرس كيفية الانفاق.  وجد الباحثون أنهم أنفقوها على الثياب والصحة ومنهم من أسس شركات أعمال. لم ينفقوها على سلع الادمان، مما يشير الى أن تحسين وضع الفقير مفيد جدا ليس فقط له وانما للمجتمع. تكتب مجلة «ذو لانست» الطبية المهمة أنه عندما يعطى الفقراء المال من دون شروط، لا يهدروها. ليست هنالك أي دلائل لوجود عامل الاهمال والكسل والانفاق التبذيري في حياة الفقير عندما يعطى الفرصة المادية الحرة.

في الحقيقة تكلفة القضاء على الفقر هي أقل بكثير من الانفاق العسكري الذي تقوم به كل الدول. تكمن المشكلة في أن القضاء على الفقر غير شعبي، أي لا يجذب الأصوات في الانتخابات. بالتالي يبقى الفقراء مهملين، خاصة وانهم لا يتجمعون في الاقتراع. هنالك عدم ادراك لمساوئ الفقر ليس فقط على الفقراء أنفسهم، وانما على المجتمعات كلها. وجود فقر مرتفع يؤثر سلبا على النمو العام وعلى الاستقرار الاجتماعي ويمنع عمليا التقدم المادي.

مناخ الفقر مزعج خاصة عندما تكون الامكانات موجودة لمحاربته. الفقر هو عدو السعادة في المجتمع. محاربة الفقر ليس فقط مهم للضمير الانساني وللعدالة الاجتماعية، لكنه مهم جدا للأوضاع المعيشية ولبحبوحة كل السكان. القضاء على الفقر هو واجب للمجتمع وحق للفقراء وليس امتيازا انسانيا وشعبيا. يقول الاقتصادي «لاري سامرز» أن الكورونا وسعت فجوة الدخل وبالتالي ساهمت في زيادة حدة الفقر. يقول أن هنالك 100 مليون شخص دخلوا مستوى الفقر الشديد مع الكورونا، كما أن الجوع ارتفع في كل القارات. في الولايات المتحدة وحدها بين 6 و7 ملايين شخص اضافي دخلوا الفقر الشديد بسبب الوباء بالرغم من الدعم المالي السخي الذي قامت به الحكومة. يشير سامرز الى أن الكورونا كلفت الاقتصاد الأميركي حتى اليوم 16 الف مليار دولار أي 4 مرات تكلفة الركود الكبير في سنتي 2008 و 2009.

في الاقتصاد، يتسابق المتخصصون في الكلام عن الناتج المحلي الاجمالي وكأن المادة هي المقياس الوحدي للتطور والحضارة والسعادة. في الواقع قال «أدام سميث» مؤسس العلوم الاقتصادية أن الأخلاق هي أهم ركيزة للاقتصاد الحر وبالتالي أي عملية اقتصادية يجب أن ترتكز على حسن التنفيذ والشفافية. لم يدخل الاقتصاديون مبادئ الأخلاق كما يجب في الدراسات ليس جهلا، وانما لصعوبة تقييم الأخلاق في الأرقام. أما اليوم وبسبب تفشي السرقات والهدر والغش دوليا، عادت الأخلاق والثقافة والحضارة لتأخذ مكانها الطبيعي في العلوم والتطبيق الاقتصاديين. نذكر هنا ما قاله «روبرت كينيدي» في أن الناتج يقيس كل شيء سوى الأمور التي تجعل الحياة مهمة وتستأهل الاستمرار بها.

في كتاب لروبرت بوتنام «كي تعمل الديموقراطيات» صدر في 1993، تكلم عن أهمية الرأسمال الاجتماعي الذي يحدد هوية المجتمعات وقابليتها للتطور. في الدول التي يتواجد فيها رأس مال اجتماعي قوي، يستثمر المواطن أكثر في الأسهم وأقل في النقد وفي الاقتراض غير الرسمي. في الدول التي يخف فيها عامل الثقة، من الصعب تأسيس شركات كبيرة تستفيد من عامل وفورات الحجم لتخفيض التكلفة، فلا تستعمل التكنولوجيا الحديثة للانتاج. هنالك مثلا فارق في حجم الشركات بين شمال ايطاليا المتطور وجنوبها التقليدي. في الشمال معدل الحجم 13 موظفا مقارنة بـ5 في الجنوب، وكلها بسبب رأس المال الاجتماعي. في الشمال، المؤسسات أقوى وتحترم فيها القوانين كما البيئة ويركز المواطن أكثر على الانتاج للنمو.

من واجب كل مجتمع أن يقيم ويفسر حجم الفقر الذي يكمن داخله. سوء توزع الدخل والثروة ليس تقني أو اقتصادي فقط، بل هو نتيجة خيارات سياسية وعقائدية واضحة وكبيرة. للأسف تدفع الكورونا العالم بالاتجاه المعاكس للمصلحة، أي باتجاه زيادة الفقر خاصة وأن امكانات المحاربة موجودة. ما نراه في كل الدول وخاصة الأوروبية اليوم مقلق ويضرب ركائز المجتمعات والقواعد التي بنيت عليها.

في لبنان هنالك من يقول أن المبادرة الفرنسية هي الفرصة الأخيرة. في الواقع ليست هنالك فرص أخيرة لأي دولة أو مجتمع، ولا بد للفرص المستقبلية من أن تظهر. تفويت الفرصة الفرنسية سيكون مكلفا على الاقتصاد وبالتالي مضر للبنان. من الأفضل للسياسيين، عن معرفة أو عكسها، أن لا يضخموا الأمور ويجعلوا اللبناني يتشاءم أكثر. فليقول السياسيون له أن المبادرة الفرنسية هي لمصلحته وبالتالي فلنضغط جميعا لعدم تفويتها في هذا الظرف العالمي الدقيق. تشكيل الحكومات يأخذ دائما الوقت الكثير والطويل. هذا لأننا نشكل حكومة لقيادة العالم وليس للبنان فقط. أما الصحافة اللبنانية عموما وفي هذه الظروف، فلا بد وأن تركز أكثر على الأمور المهمة وليس على أخبار السياسيين التي لا يمكن وصفها الا بالسطحية الدعائية ولا تهم الا السياسيين أنفسهم.