بيروت - لبنان

اخر الأخبار

30 كانون الأول 2020 06:37ص وطن «بالمقلوب» تحكمه نظرية الفوضى

حجم الخط
لم يشهد العالم خلال النصف الثاني من القرن العشرين او بداية القرن الحادي والعشرين اية حروب او نزاعات كبرى تؤدي الى عقد مؤتمرات دولية تبحث عن خيارات جديدة لادارة النظام الدولي، والذي ما زال محكوماً بالانظمة التي رسمتها القوى الدولية التي انتصرت في الحربين العالميتين، الاولى والثانية، من خلال رسم خرائط سياسية جديدة للدول، او من خلال انشاء منظمات دولية قادرة على حل او ادارة الازمات الناشئة بين مختلف الدول او المتفجرة بين مختلف الديناميات المتناقضة داخل الدولة نفسها. صحيح ان العالم لم يشهد حروباً واسعة خلال هذه الفترة، ولكنه واجه مسلسلاً متواصلاً من الحروب الاثنية، والحروب المحلية الهادفة الى حل مشاكل حدودية او استعادة حقوق تاريخية، تحركها مطامع حديثة للدول الاقليمية الرئيسية للهيمنة على جيرانها الاضعف منها، او لتحقيق مصالح استراتيجية من اجل تدعيم موقعها في الجيوبولتيك الاقليمي.

اما المفارقة الكبرى التي لا يمكن اغفالها خلال فترة الخمسين سنة الاخيرة فقد تمثلت بالتطور الكبير الذي حدث في مجال مختلف العلوم، والذي نتج عنه تراكم ضخم من المعارف، فتحت الباب امام امكانية اعتماد مقاربات فكرية متعددة، من ضمنها المقاربة الفلسفية المعروفة بنظرية الفوضى، والتي تستند فيها صناعة القرار على ادعاء القدرة على الوصل بين التناقضات او متابعة حركة الاشياء او ملاحقة تطورات لا يمكن التنبؤ بنهاياتها، متناسين في السياق اننا بتنا نعيش في عالم لا يمكن ضبط حركته او ارتقابها وذلك بسبب التعقيدات المحيطة به.

يواجه لبنان مصيره السياسي والاقتصادي والاجتماعي منذ بداية هذه الثورة العلمية التي اجتاحت العالم، وهو في حالة من الضعف والتفكك، بسبب الحروب ومسلسل الازمات السياسية والامنية والاجتماعية التي شهدها منذ عام 1969 وحتى يومنا هذا. لم يكن لبنان جاهزاً للسيطرة على دينامياته السياسية والطائفية والمذهبية، وبما يخوّله للتماسك والتفاعل بقوة، وبما يحفظ مصالحه ومستقبله السياسي والاقتصادي في مواجهة التطورات الكبيرة التي شهدها العالم أو التي عمّت المنطقة.

كان على لبنان ان يواجه كل التداعيات التي نتجت عن النكسة الكبرى التي أصابت العالم العربي نتيجة حرب الخامس من حزيران عام 1967، وخصوصاً الضغوط العربية التي مورست عليه للقبول بحصر العمل الفدائي والمقاومة الفلسطينية المسلحة ضمن حدوده بعد توقيعه لاتفاقية القاهرة، والتي اسست للقبول بقيام دويلة فلسطينية داخل دولته. كما كان على لبنان ان يواجه حرباً داخلية، بدأت برفض شريحة واسعة من اللبنانيين للتجاوزات الفلسطينية على سيادة لبنان وتهديد استقراره الأمني والسياسي.

كان على لبنان أيضاً ان يواجه المتغيّرات السياسية والأمنية التي فرضتها الثورة الإيرانية وإنشاء الجمهورية الإسلامية مع كل ما حملته معها من ضغوط على مختلف الأنظمة العربية من خلال رفع شعار تصدير الثورة الإسلامية إلى دول المحيط. وكان على لبنان ان يواجه هذه الضغوط في ظل بلوغ اليقظة الشيعية ذروتها في ظل الحركة التي أطلقها السيّد موسى الصدر تحت شعار المطالبة بحقوق «المحرومين»، وبالتالي في بيئة خصبة، جرى تحضيرها بعناية، لاضعاف وتفجير النظام اللبناني، ونشر حالة من الفوضى العارمة وعدم الاستقرار الأمني، عرفت بفترة الحرب «الأهلية»، والتي امتدت على مدى عقد ونصف، حيث انتهت مع توقيع اتفاق الطائف.

لا يمكن خلال هذه الفترة تجاهل الضغوط العسكرية الإسرائيلية على لبنان، سواء للاقتصاص من العمليات الفلسطينية أو الاجتياح الذي جرى عام 1978، واحتلال الشريط الحدودي، أو الحرب الواسعة التي شنتها إسرائيل عام 1982 ووصلت فيها إلى بيروت، لإخراج المقاومة الفلسطينية والجيش السوري من بيروت.

لا بدّ في هذا السياق من التوقف عند فترة الوصاية السورية على لبنان، حيث فقدت كل عناصر السيادة الوطنية على كل المستويات السياسية والأمنية والاقتصادية، بما في ذلك في مجال السياسة الخارجية حيث باتت المواقف اللبنانية مرتبطة بشكل «مضبوط» بما يريده النظام السوري عربياً ودولياً.

بعد خروج القوات السورية من لبنان عام 2005، انقسمت القوى السياسية اللبنانية إلى معسكرين: الأوّل يدين بالولاء لسوريا ولنظامها، بينما ينادي الثاني باستعادة السيادة، من خلال الابتعاد عن النظام السوري، والتعامل مع سوريا على أساس احترام العلاقات الندّية والمصالح المتوازنة.

كان على لبنان أيضاً ان يواجه ارتدادات احداث الربيع العربي، وتداعيات التشظي العسكري والأمني الذي واجهته سوريا بعد اندلاع الثورة عام 2011. وكانت لتدخلات حزب الله وبعض القوى اللبنانية الأخرى في النزاع الداخلي السوري أثارها المزلزلة، سواء لجهة الأعمال الإرهابية التي شهدتها الساحة الداخلية بتحريك بعض المنظمات المقيمة في المخيمات الفلسطينية أو من خلال دفع مجموعات إرهابية عبر الحدود لتزرع القتل والرعب في مختلف المناطق اللبنانية، وخصوصاً في بيروت وضاحيتها الجنوبية.

لا نغالي في الواقع الراهن إذا اعتبرنا بأن مصير لبنان ما زال مرتبطاً بإيجاد حل لكل الأزمات الدولية والإقليمية التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط، بالإضافة إلى ضرورة حل كل الأزمات الداخلية الطارئة المرتبطة بصورة مباشرة أو غير مباشرة بالطموحات الإيرانية للهيمنة على المنطقة العربية أو بالصراع الاميركي - الإيراني، أو بالصراع الاسرائيلي - الإيراني، أو بالصراع على النفوذ في سوريا ولبنان بين تركيا وإيران.

في خضم هذا الصراع المتعدد الجوانب والاشكال، نجح حزب الله في فرض هيمنته السياسية والأمنية على الداخل اللبناني، كما نجح في خطف سيادة لبنان الخارجية وتجييرها لصالح استراتيجيته في المواجهة مع أميركا وإسرائيل، ومع عدد من الدول العربية بالانابة عن إيران.

في ظل هيمنة حزب الله على الواقع السياسي والأمني اللبناني كان من الطبيعي ان ينتخب الحليف «الموثوق» العماد ميشال عون لرئاسة الجمهورية، ضمن تسوية «خادعة»، تسترت وراء شعارات فارغة كلبنان القوي، والرئيس القوي، واستعادة حقوق المسيحيين، والابراء المستحيل، والحرب على الفساد، وصولاً إلى الوعد بإقامة جمهورية «افلاطون»، على أمل تسليمها إلى «الوريث المختار» جبران باسيل، رجل الوفاء والثقة لمحور الممانعة، والحليف الملتزم للنظام السوري.

في ظل المعادلة السياسية الراهنة بين حزب الله والعهد يمكن القول بأننا نعيش في ظل نظام لا يمكن ارتقاب حركته أو توكيد خياراته، بالرغم من محاولة الطرفين التأكيد بأنهما يعملان وفق قواعد النظام والعرف والدستور، وبأنهما يسعيان ببساطة لتحقيق مصالح واماني الشعب بالاستقرار والازدهار.

لكن لا يمكن ان يخفى على المراقبين الداخليين وعلى رأسهم البطريرك الراعي، والمراقبين الأجانب وعلى رأسهم ممثّل الأمم المتحدة في لبنان يان كوبيتش بأن العهد وحزب الله يعملان على حجب اهدافهما السياسية الحقيقية عن أنظار المراقبين الأجانب والقوى السياسية المعارضة لتوجههما عن طريق اعتماد نظرية الفوضى، والتي تجهد على إخفاء أهدافها وسبل تحقيقها لهذه الأهداف، وذلك في محاولة واضحة لاحاطة حركتهما السياسية بسحابة كثيفة من التعقيدات والتناقضات، تحجب الرؤية، وتدفع بالتالي نحو سوء التقدير وخطأ الارتقاب والتقدير.

يبدو بوضوح بأن البطريرك الراعي ومعه ممثّل الأمم المتحدة يان كوبيتش قد اصيبا بالاحباط بعدما اكتشفا عقم الفكر السياسي المستند على نظرية الفوضى والعمل من خارج العرف والنظام  والدستور الذي يستعمله العهد وحليفه حزب الله مع مسألة تشكيل حكومة إصلاحية تعمل لإنقاذ الوضع السياسي والاقتصادي ووقف اهتزاز وسقوط الهيكل الوطني.

يدفع المنطق المستند إلى نظرية الفوضى والمعتمد من قبل رئيس الجمهورية وتياره السياسي بالاشتراك ورعاية فاعلة من قبل حزب الله إلى طرح عدّة تساؤلات ابرزها:

هل يجوز ربط مصير البلد بحل كل الأزمات الدولية  والإقليمية التي تواجهها إيران؟

هل يجوز ان يتحوّل لبنان إلى ورقة في المفاوضات لرفع العقوبات الأميركية عن إيران؟

هل يمكن السماح بتحويل كل الاستحقاقات السياسية إلى ورقة ضامنة لسلاح حزب الله؟

إلى متى يمكن التسامح والصبر لتلاعب العهد وحزب الله بمصير ومستقبل اللبنانيين؟

إلى متى يمكن ان يستمر اللبنانيون بقبول ان يحكم وطنهم من خارج العرف والدستور؟

نحن نرى مع البطريرك الراعي والسيّد يان كوبيتش بأن لبنان ليس الولايات المتحدة أو إيران لينتظر وصول بايدن إلى البيت الأبيض من أجل المبادرة لتشكيل حكومته الاصلاحية، وبأنه بات لزاماً على العهد والحزب وقف مناوراتهما المكشوفة لعرقلة تشكيل الحكومة، والدفع بالشؤون الوطنية العامة للسير بالمقلوب، وان دقة المرحلة والمخاطر التي يواجهها اللبنانيون باتت تدفعهم للمطالبة باعتماد مقاربات سوية وواضحة في إدارة شؤون البلاد، وخصوصاً لجهة  السير قدماً وبشفافية في التحقيق الخاص بانفجار مرفأ بيروت، وبالتالي الثأر لدماء الشهداء والأخذ بيد الجرحى والتعويض على المتضررين.

لا يمكن ان يقبل اللبنانيون الاستمرار لدفع بلدهم للاستمرار في السير بالمقلوب، وبحكمه بصورة عشوائية من خارج العرف والميثاق والدستور والتي شكلت الركائز الأساسية لدولة الاستقلال وللدولة الحديثة التي عمل الرئيس فؤاد شهاب على اقامتها في ستينيات القرن الماضي.