بيروت - لبنان

اخر الأخبار

29 آذار 2019 01:07ص إغلاق مقهى الحاج السق (المستقبل) - عائشة بكار حكاية تاريخ حافل.. طواه الزمن

حجم الخط
اغلقت أبواب «مقهى المستقبل» بمنطقة عائشة بكار بعد مرور نصف قرن من عمرها المديد، وحتى كتابة هذه السطور لم يعرف سر اغلاقها سياسية أم مالية أم ان ورثة صاحب المبنى «أحمد حسونة» احبوا عدم تجديد التعاقد مع المستأجر محمّد سعيدون «ابو وسام» بطل لبنان في كمال الاجسام سابقاً والمنتج السينمائي أيضاً.
عرف «مقهى المستقبل» سابقاً بـ«مقهى الحاج السق» وهذا لقبه لصاحب (المقهى السياسي) واما اسمه الحقيقي فهو الحاج عبد الحفيظ عانوتي، ويعتبر الحاج (العانوتي) من رجالات بيروت وأحد المفاتيح السياسية لمدينة بيروت منذ بداية عهد الاستقلال الذين تركوا بصماتهم في (جبين العاصمة) قبل رحيلهم امثال أبو عفيف كريدية، «ابو علي عيتور»، وأبو سعيد حمد، وعبد الرحمن بكداش العدو وأبو عفيف بعدراني وأحمد الجاك «ابو حسن» ومن اقواله: القبضاي لا يحمل مسدساً والرجولة بـ«المواقف الصعبة».
ومن قبضايات بيروت الذين كانوا يترددون إلى مقهى الحاج السق (المستقبل).. عبيدو الانكدار عم الوزير الراحل د. صبحي المحمصاني، أحمد البواب، وأحمد عبد العال وعبد الغني دبيبو وقد سمي مقهى «ديبيو» بمنطقة الروشة باسمه.
هؤلاء القبضيات توزعوا بين المقاهي الشعبية البيروتية فمن احب مقاهي البسطة والقزاز وصليبا ودوغان، وفلسطين، أو مقهى الغلاييني بمنطقة الروشة، التي كانت ملتقى المرشحين للنيابة ومطابخهم الانتخابية امثال: سامي الصلح، واليافي وسلام، ونسيم مجدلاني، ومن ثم «خصمه» المرشح الصحافي جبران عكاوي، وعدنان الحكيم وأعضاء لائحته النجادية رمضان لاوند وغيره.
وفجأة اغلقت أبواب أشهر مقهى شعبية في العاصمة مقهى الغلاييني ويقال انها بيعت بـ75 مليون ليرة واشتراها الاخوان ضاهر وهما من رجال الأعمال المغتربين في افريقيا، ومن ثم بيع العقار للامير وليد بن طلال.
ولأن مقاهي العاصمة اشتهرت بقبضايات أيام زمان، فمن كان يزور مقهى «المستقبل» قبل اغلاقه، كان يعيش مع هؤلاء ولكن؟! من خلال (صورهم المزركشة) و«طرابيشهم» والقمباز، والشراويل والعمائم والمسدسات، والشراويل التقليدية، والخيزرانة.
أولاً، صورٌ نادرة بدون شك جمعت تراث - هؤلاء الظواهر - من (قبضايات البيارتة) القدامى؟ صوراً تجسدت فيها الشهامة والمروءة والعنفوان، فكل صاحب «صورة» هو بمثابة - تاريخ - يمشي على الأرض؟!
ومن لا يعرف القبضاي الشهم عفيف السبع وعبد اللطيف النعماني والحاج نقولا مراد (قبضاي - الاشرفية) وعثمان عبد العال، وأحمد آغا الشرقاوي والأخوين (إبراهيم وخالد عيتاني) ومحمد العيتاني (مزّق العلم الفرنسي) وأبو ناجي شهاب الدين ومحمّد خضر العانوتي، لا يعرف مطلقاً عن تاريخ، وتراث هذه الحقبة السياسية والاجتماعية عن بيروت ذات (الأبواب الثمانية) بمنطقة «عصور»؟!
وان كانت مقهى الحاج السق التي شهدت في حياته اضخم المعارك (الانتخابية البيروتية) منذ مطالع الخمسينيات حتى السبعينيات، وكان ثمن صوت الناخب (متواضع) للغاية.. يعني قبل ظاهرة الدولار الذي لعب في عقول ووجدان الناخبين.
كانت أصوات المرشحين للنيابة البيروتية تعرف نتائجها سلفاً، قبل عصر الانترنت و... الخبر العاجل ومكاتب التحرير في خبر جديد إلى آخر المعزوفة..
فمثلاً: كان الحاج «ابو علي عيتور يقف عشية النتائج الانتخابية على باب مقهى «السق» أي عبد الحفيظ العانوتي مع الاخوين أبو سعيد جنون وأبو رياض جنون يعلنان فوز لائحة سامي الصلح أبو الفقير.
أو فوز قرنفلة بيروت صائب سلام ولائحته وغيرهما من المرشحين.
كانت مطابخ مقهى «السق» المستقبل سابقاً، أخطر (المطابخ الانتخابية) التي شهدها لبنان منذ الخمسينيات.
الحاج سعيد حمد كان هو الآخر يعلق صور قبضايات بيروت في مقاهي وشوارع البسطة والبدوي الفيومي، وحبيب الدندشلي شيخ شباب محلة برج أبي حيدر، وسعد الدين القيسي وأبو خليل القيسي الذي يعتبر أبرز المفاتيح الانتخابية لعبد الله اليافي، ومصباح قليلات وأبو أحمد طقوش وأحمد الحوت «ابو بشير» في عين المريسة وراشد دوغان، وحسين سجعان وابراهيم الدنا وغيرهم هم زعماء فبركة الانتخابات النيابية.
اما مقاهي الادباء والشعراء فقد اختاروا مقهى الحاج داود، والبمريك بعيداً عن ضوضاء المعارك النيابية كل 4 سنوات ومفرقعات ورصاص الابتهاج والـ«أف أم» ورصاص المسدسات بعد اعلان فوز المرشحين و.. لغة الشوارع ومفردات البيئة.
مقهى «السق» بعائشة بكار لمؤسسه عبد الحفيظ العانوتي الذي شهدت له جدران سجن الرمل أكثر من «خضة» سياسية وكان عندما يخرج من سجن الرمل.. يستقبله الاخوان (جميل ومحمّد الحلبي) على الاكتاف، واصوات زمامير السيّارات ثم يعود إلى بيته تجاه مسجد عائشة بكار كأن شيئاً لم يكن؟!
ويعود سامي الصلح «ابو الفقير» صباح اليوم التالي مع بعض مفاتيحه الانتخابية لتقديم التهاني.
اصعب المدن واشدها قسوة وجفاء تلك التي لا تدلك على مقاهيها.. أو تضيع خطوتك فيها كثيراً قبل ان ترشدك الى مقهى.. بوصف المقهى أحد أكثر زواياها دفئاً وسماحة، ورئحة تشتاق إليها الروح حتى وإن ألفتها (ربما الشوق يعمر مع كثرة الالفة).
مقهى المستقبل سابقاً «ألف لام» الحاضرة والتاريخ والجغرافيا.
مقعد وطاولة وأطياف وجود عابر وآخر لابث يكون لك في المقهى وعلى جدران المقهى حصة كبيرة من (الوجوه البيروتية) والتعبيرية الشاسعة والشائقة، لا تهدها المدن ولا تأسرها وحشة الأمكنة وغرابة اللسان.
مقهى «السق» بـ عائشة بكار - «المستقبل» كان قدراً على معانقة كل لغات الأرض ومشاعرها، الزبائن.. بعد اليوم لم يتذوقوا رائحة القهوة السوداء؟!
فالتاريخ اغلق أبوابه بعد مرور نصف قرن و«العانوتي» عن الدنيا؟! ومقهاه يفتش عن (أوراق التاريخ) المندثر.. فأوراقه (العانوتية) عصفت بها الرياح وذبلت معها (أوراق الحنين).. حنين مجد بيروت.. وصور قبضايات بيروت المعلقة على الجدران لم تعد تروي لنا صدى السنين الحالي.