بيروت - لبنان

اخر الأخبار

7 كانون الأول 2021 12:01ص العنف الأسري: ما الذي يدفع لاجئات ومهاجرات إلى تحمُّل الأمرّين في بلاد الحريات؟

حجم الخط
لماذا تتحمل نساء عربيات لاجئات ومهاجرات العنف الأسري، خاصة الأمهات منهن، ويترددن طويلا في طلب العون، رغم وجودهن في دول غربية، حيث عنف الشريك مستنكر اجتماعيا، وجريمة يحاسب عليها القانون، وحيث تتوفر بيوت خاصة لإيواء المعنفات، وتقدم لهن الحماية الرعاية والدعم النفسي والاقتصادي؟

تعرّض النساء للعنف سواء من الزوج أو الشريك، لفظيا ومعنويا أو جسديا، ليس حكرا على مجتمعات بعينها. لكن الفرق هو في كيفية تعامل القانون مع مرتكب التعنيف، ومستوى المساعدة المقدمة للضحايا.

فهل الغبن القانوني والمجتمعي في آن، والنقص الفادح في الدعم الحكومي في الدول التي نشأن فيها، ومحدودية أو غياب مؤسسات المجتمع المدني، التي يمكن أن يلجأن إليها، حوّلهن إلى ضحايا مزمنات، وعطّل آلية طلب المساعدة لديهن؟

أم أن الخوف من تدخل هيئات الخدمة الاجتماعية في حياة الأسرة عامل أساسي؟ وله ما يبرره في ظل ما يروج في أوساط اللاجئين، خصوصا الجدد، بأن تدخل هذه المؤسسة على اختلاف مسمياتها في أوروبا، من الممكن أن ينتهي بأخذ الأولاد، ووضعهم تحت الرعاية لدى عائلات بديلة؟ أم أن الأمر مجموعة من العوامل الاجتماعية والثقافية والمادية والنفسية المتداخلة؟

لفهم هذه الأسباب، تحدثنا إلى نساء معنفات من لاجئات ومهاجرات، وأخذنا رأي الطب النفسي والقانون، وبحثنا في سير إجراءات هيئة الخدمات الاجتماعية في بريطانيا والمتعلقة بحماية الأطفال، وهي إجراءات متشابهة في كافة دول أوروبا إلى حد كبير.

بسبب حساسية الموضوع أعطينا النساء المعنفات أسماء مستعارة، وإن اشترطنا أن تكشف لنا المتصلة اسمها الحقيقي ومعلومات تكفل المصداقية. وسمعنا حشجرة الصوت عند موقع معين من الحكاية، وتنهيدة التحمل الطويلة، وضحكة اليأس الصغيرة الساخرة، أو الطريقة التي تنطق بها كلمة تشعرك تماما بأن ثمة نافذة كبيرة فتحت أخيرا أمام محدثتك، وهي الآن تعب نفسا عميقا من هواء الخلاص.

التضحية ومحاولة استيعاب المعنِّف

نائلة من مدينة البصرة في العراق، في نهاية الخمسينات من عمرها، ومقيمة في لندن منذ نحو عشرين عاما. علاقتها بزوجها كانت جيدة، لكن بعد لجوء العائلة إلى بريطانيا تغير الوضع، تقول نائلة «أصبح زوجي يضيق علي في الحركة، ويوجه لي إهانات جارحة جدا أمام الجميع، بما في ذلك أولادي، ويقلل من شأني باستمرار. الحال صار لا يطاق».

أصيبت نائلة باكتئاب حاد، وأصبحت تعتمد على الأدوية. لكن خلال زيارة للطبيب لتجديد وصفة مضادات الاكتئاب. سألها فجأة إن كان السبب هو معاملة زوجها؟

تقول «انفجرت ببكاء هستيري. كل ما كتمته خرج. لم أكن مستعدة للسؤال، ولم أستطع السيطرة على نفسي»، حينها قال الطبيب إنه يتوجب إخبار الشرطة فورا.

رفضت نائلة بإصرار، وتقول:«لا يمكن أن أشتكي على زوجي، وأدمر أسرتي، كيف سينظر إلي أولادي؟». وبدا لها هذا دفعا قسريا على طريق لم تكن مستعدة له أبدا، وهو الانفصال.

وفوق هذا كانت لدى نائلة مخاوف، ليس لها سند حقيقي، كما تقول، بسبب قصص سمعتها عن سجن أزواج عنيفين وأخذ أولاد للتبني، و»ما كنت لأقبل لعائلتي بمصير مشابه».

أصبحت نائلة تزور أخصائية نفسية. تقول «تفهمت وضعي، خصوصا أنها من خلفية شرقية». لكن لم تستمر معها طويلا.

استجمعت قواها، وقررت استيعاب زوجها و تبرير سلوكه. «كنت أعرف أن زوجي جُرِّد هنا من أسلحته. فهو لا يعرف اللغة، ويرفض تعلمها. أصبح غريبا، ولم يعد يعمل، ولم يعد رب الأسرة ومعيلها كالسابق. نعيش على المساعدات، أي الدولة هي رب الأسرة».

تقول:«اليوم أصبحنا جدا وجدة، ولا نزال معا. بين فترة وأخرى يعود إلى الإساءة لي. لكنه أفضل من السابق. وأنا الآن على الأقل حرة الحركة والتصرف».

إلا أن سؤالا قد يكون عرضيا، يطرحه أحد الأولاد أحيانا يشعرها بحزن عميق، «ماما، لماذا تحملت كل هذا؟ لماذا لم تتطلقي وترتاحي؟». تقول «بذلت جهدا جبارا للحفاظ على عائلتي، ومن أجل أولادي، لكن صدقا يبدو أن المضحي يأكلها بجلده».

ورغم إيجابية نائلة في استيعاب زوجها والحفاظ على كيانها الأسري، فلا بد من التساؤل هنا عن دافعها الأساسي العميق، وهل لذلك علاقة بالاحتفاء بالأم المضحية على حساب المرأة كما هو سائد في الثقافة الشعبية العربية؟

تقول الدكتورة بلال «إن فكرة تضحية المرأة بنفسها من أجل الحفاظ على الزواج، أو وهم حماية الأسرة مقابل سلامتها وسعادتها، جزء من تطبيع العنف ضد المرأة، فتصبح الضحية دائما مدفوعة بالرغبة في إرضاء من حولها، وتقبل بتسبب الأذى لنفسها، من أجل مصلحة الآخرين».

ويقول الدكتور شعيب «الاستجابات النفسية التي تصدر عن امرأه تتعرض للعنف الأسرى لا يمكن فصلها عن الظروف الاجتماعية والثقافية التي تحكم حياتها، وكذلك فكرة الاحتفاء بصورة الأم السلبية الضحية في المجتمعات الشرقية. إضافة إلى أن قلة المعرفة بالمجتمع الجديد وقوانينه تؤدي إلى صمت المرأة عندما تكون ضحية العنف الأسري».

الناجية بعد المحاولة الثانية

سها عمرها ٢٩ عاما من مدينة الإسكندرية في مصر، وتعيش في مدينة أنتويرب في بلجيكا منذ نحو خمس سنوات. كانت متزوجة حديثا حين بدأ زوجها في تعنيفها وضربها، تقول «لم أدر ماذا أفعل؟ تحملت وكنت أحاول جهدي تفادي غضبه».

كانت سها غريبة تماما، وإقامتها تعتمد على الزوج، و»فكرة العودة إلى مصر كامرأة فاشلة ومطلقة «كانت تخيفني»، كما تقول.

بعد التحاقها بمدرسة اللغة، تعرفت سها على البلد وقوانينها. وصل عنف زوجها إلى حد لا يحتمل، فتواصلت مع جمعية SAW التي ساعدتها على الانتقال إلى مأوى خاص.

لكن بعد فترة، ونتيجة ضغوط من الأهل والمؤسسة الدينية التي تنتمي إليها، وإصرار زوجها على عودتها إلى المنزل، ووعوده بالتغيير «صدقته، وتصالحنا، وعدت إلى المنزل»، كما تقول.

حملت سها، وأنجبت طفلا، لكن الوضع تفاقم. تقول «كان عمر طفلي أشهر عندما ضربني بوحشية. اتصلت بالشرطة. كان وجهي مغطى بالدماء. وأخذوه من المنزل». وعادت سها إلى المأوى، لكن مع طفلها هذه المرة.

وتقول سها «أنا اليوم أعمل، وأعيش في شقتي، التي تساهم المساعدات في إيجارها. انفصلت عن زوجي. أشعر أحيانا بالوحدة والمسؤولية كأم وحيدة، لكن بشكل عام، راضية عن حياتي».

وعن قرار المرأة المعنفة بالعودة إلى زوجها رغم عدم وجود أطفال، تقول الدكتورة بلال «غياب الدعم من العائلة والأصدقاء قد يدفع المرأة المعنفة لاتخاذ قرار العودة. وهناك شعور الضحية الخاطئ بأنها ربما فشلت بطريقة ما في دورها كزوجة».

القرار الصعب

في الحلقة الثانية من مسلسل Maid «خادمة» المعروض حاليا على نتفليكس. تتفاجأ أليكس، بطلة المسلسل، تلعب دورها الممثلة مارغريت كوالي، باختفاء صديقتها في مأوى للنساء المعنفات، والتي كانت دائما تشجعها على عدم العودة إلى زوجها.

تسأل أليكس المشرفة، فتجيبها «لقد تركت المأوى»، وحين تصر على معرفة مصير صديقتها، تجيب المشرفة «عادت، إلى زوجها.. هذا يحدث كثيرا. إنها المرة الثالثة التي تعود فيها إليه. بعضهن يفعلن ذلك مرات عديدة. لقد احتاج الأمر مني شخصيا خمس محاولات».

يأتينا اتصال على تطبيق فيسبوك، تقول المتصلة إنها في هولندا، وهي موجودة منذ أسبوع في مأوى للنساء المعنفات. لم تعد تستطيع الصبر على ضرب وتعنيف زوجها، وأخيرا اتخذت القرار. تخبرنا باسمها، وتقول إن آثار الضرب على جسدها لا تكاد تختفي حتى يظهر غيرها. فجأة تقول «آسفة، آسفة جاءتني مكالمة»، وينقطع الخط.

في اليوم التالي يختفي الحساب الوهمي، الذي اتصلت منه، وكذلك الحساب بالاسم الذي أخبرتنا به. بعد يومين تصل رسالة من حساب وهمي آخر «أنا التي اتصلت بك قبل ثلاثة أيام. تصالحت مع زوجي، ووعدني أنه سيتغير. أرجوك لا تحاولي التواصل معي».

تنتهي قصتها بالنسبة لنا هنا، لكن من يدري إذا كانت حياتها ستتغير فعلا!

حقائق وأرقام

بحسب منظمة الصحة العالمية، تتعرض امرأة واحدة من كل ثلاث نساء في العالم لأحد أشكال سوء المعاملة من قبل شريكها. و٣٨ في المئة من جرائم القتل حول العالم يرتكبها رجال ضد شريكاتهم.

أكثر من ٢١٠ آلاف امرأة بالغة في فرنسا تعرضت للعنف المنزلي الجسدي عام ٢٠١٨، حسب وكالة الأنباء الفرنسية. وقتلت ١٢١ امرأة خلال عام ٢٠١٨ بيد زوج أو شريك حالي أو سابق.

في ألمانيا، تلجأ ٤٥ ألف امرأة سنويا إلى الملاذات الخاصة بالنساء المعنفات. بحسب أرقام وزارة الصحة الألمانية عام٢٠١٦.

في بريطانيا نحو ١،٦ مليون امرأة تتراوح أعمارهن بين ١٦ و٧٤ عاما تعرضن للعنف المنزلي في عام ٢٠٢٠، حسب المكتب الوطني البريطاني للإحصاء.

منظمة «رفيوج» (ملاذ) البريطانية المعنية بمساعدة ضحايا العنف المنزلي من النساء والأطفال، تعرّف العنف الأسري ضد المرأة، بأنه ممارسة أي إساءة أو عنف بهدف السيطرة. وهذا يشمل الإساءة الجسدية والجنسية والنفسية واللفظية والعاطفية والمالية، واضطرار المرأة إلى تغيير سلوكها خوفا من رد فعل شريكها.

تقول منظمة هيومن رايتس ووتش في تقرير نشر في ٨ تموز عام ٢٠٢٠ إن المهاجرات اللواتي لا يملكن إقامات شرعية، يواجهن عوائق في الحصول على الخدمات المتوفرة لضحايا العنف. وقد يخشين من الاتصال بالسلطات بسبب خطر الاحتجاز أو الترحيل أو الانفصال عن أطفالهن.

عدم ثقة وجهل بالقانون

في ٣١ آذار عام ٢٠١٧ بلغ العدد الإجمالي للأطفال تحت كفالة نظام الرعاية في إنجلترا ٧٢٦٧٠ طفلا، منهم ٥٣٤٢٠ طفلاً في رعاية عائلات بديلة. حسب مراجعة مستقلة أعدها السير مارتن ناري ومارك أويرز، لنظام كفالة الأطفال في إنجلترا بتكليف من وزارة التعليم.

ووفقا للمصدر نفسه، فإن هؤلاء الأطفال هم في الغالب من البيض بنسبة بلغت ٧٦ في المئة، في حين بلغت نسبة مختلطي الأعراق ٩ في المئة، ونسبة السود ٧ في المئة، و٤ في المئة من أصول آسيوية، و٣ في المئة فقط من المجموعات العرقية الأخرى، والتي يصنف العرب من ضمنها.

وحين يوضع الطفل تحت الرعاية لدى عائلة بديلة، يكون تحت إشراف الخدمات الاجتماعية إلى أن يبلغ الـ ١٨ عاما، ويحتفظ باسمه ولقبه، وقد يتنقل بين عدة عائلات. ويجرى عادة تقييم ومراجعة لوضعه كل ستة أشهر.

ويقول الموقع الخاص بهيئة الرعاية الاجتماعية في بريطانيا، إن العائلات قد تشعر بالقلق من تدخل الهيئة بسبب تجارب ربما سمعوها من آخرين، والخوف من قيام الأخصائيين الاجتماعيين بأخذ أطفالهم من منزل العائلة.

ولكن يؤكد الموقع أن إبعاد طفل عن والديه، لن يتم إلا بوجود دليل واضح جدا على أنه عرضة لخطر الإصابة بأذى، وأن الإبعاد يحدث بموجب أمر من المحكمة. أما تدخل الشرطة وأخذ الطفل ووضعه تحت حمايتها، فيتم فقط عند وجود خطر محدق بالطفل يتوجب التدخل السريع. ولكن عليها إعادته إلى رعاية الأهل في غضون 4٤٨ ساعة، ما لم تصدر المحكمة أمر حماية طارئا في الحالات الخطيرة المستعجلة.

وبحسب الموقع نفسه، والذي يذكر بالتفصيل الأسباب الموجبة للتدخل وسير الإجراءات، تقوم الخدمات الاجتماعية بشرح الخطوات للأهل، ونصحهم بطلب استشارة قانونية.

يقول المحامي صباح المختار، رئيس جمعية المحامين العرب في بريطانيا «إجراءات أخذ الأطفال من الأهل طويلة جدا، ومعقدة وتخضع للوقائع، وهي محايدة، وتضع مصلحة الطفل أولا. لكن لم أجد شخصا خلال خبرتي الطويلة يخسر قضية، ويقبل بأن الحكم صحيح. دائما يقولون إنهم متحاملون ضدنا».اطلعت بي بي سي نيوز عربي على حالة في بريطانيا وضع فيها أطفال عائلة سورية في رعاية عائلات حاضنة بديلة عن طريق الخدمات الاجتماعية، وقد أصبح تواصل الأطفال الأربعة مع بعضهم ومع والديهم لا يتم إلا بإشراف الأخصائيين الاجتماعيين.

ويقول المحامي صباح المختار «حين تتراجع الزوجة عن أقوالها، فبالنسبة للقضاء، إما أنها لم تكن سابقا تقول الحقيقة، أو أن ما تقوله حاليا غير حقيقي. ويأخذ القاضي ذلك ضدها، كما يأخذ ضد الرجل ارتكابه للعنف، وبالتالي يعتبر الإثنين غير مؤهلين لتربية الأطفال».

ووفق القانون، يحق لوالدين سحب منهما أطفالهما بموجب قرار محكمة الاعتراض، ويمكن لهما النجاح في حال توفر الأرضية القانونية المناسبة. لكن فرص النجاح عادة قليلة حين يصل الأمر إلى هذه المرحلة، وكما يقول المختار «يأخذ القاضي في الاعتبار أن تقرير هيئة الخدمات الاجتماعية أعده مؤهلون لديهم خبرة طويلة وبعد معاينة الوقائع. ولكن مع هذا قد يتمكن المحامي من إيجاد ثغرة قانونية تؤدي إلى إفشال القضية».

(بي.بي.سي.)