هبّت شوارع لبنان لا سيّما في الشّمال، وتحديداً في مدينة طرابلس، فصدحت من جديدٍ حناجر النّاس غاضبةً، بوجه غياب الدّولة الفاقع والفاضح والمستهجن عن أبسط مسؤولياتها تجاه الشعب. فغالبية المواطنون مضطرون للمكوث في بيوتهم التزاماً بقرار الإغلاق، لكن لا معين لهم، ولا من ينتشلهم من غول العوز والحاجة، فالدولة تعوّدت أن تنظر بعين حولاء، وإذا كان تأمين القوت اليومي منذ أكثر من سنة صعب المنال، فكيف الحال والركود والبطالة والوباء.. وقرار الإقفال غير المدروس؟!
بالإضافة إلى ما تكشفه كل فترة تقارير البنك الدولي من أرقام صادمة لمستويات الفقر في لبنان، تكفي جولة ميدانية قصيرة للوقوف على ما هو أفظع وأكثر قساوة، عمّال فقدوا «يومياتهم»، عائلات تكتفي بالخبز والماء، وآخرون يفتقدون الدواء وأبسط أبسط مقوّمات الحياة العادية.
«اللواء» جالت في أكثر من منطقة، والتقت مياومين وسألتهم عما يعانونه في ظل الجائحة والإقفال، وكيف يعيلون أنفسهم وعائلاتهم؟
الأسمر: لضرورة التعويض
وفي حديث مع «اللواء»، يشير رئيس الاتحاد العمالي العام بشارة الأسمر إلى أنّ «الإقفال العام يجب أن يكون مدروساً ومنظّماً وفقاً لتنسيقٍ يقوم مع الإتّحاد العمالي العام والجهات المعنية»، ويشدد على «أهمية التعويض على العمال الذين تحسب أجورهم وفقاً للدوام اليومي، إن كان بحوافز معيّنة للمؤسسات الّتي يعملون فيها أو للعامل عبر بدائل شهرية من قبل وزارة الشؤون الإجتماعية أو الهيئة العليا للإغاثة، إذ أصبح يهرب بدوره من القانون ليؤمّن قوت عائلته».
وعن صرخة الشّارع، يؤكّد الأسمر أنّهم «كانوا يحذّرون من غضب الشّارع وانتفاضة النّاس منذ أكثر من شهر أي ما قبل الإقفال، فالعامل المياوم يحمل أعباءً كبيرة اليوم»، مع تأكيده على «ضرورة الإقفال أيضاً بسبب الوضع الصحي الكارثي الّذي وصل إليه لبنان اليوم»، ويتابع: «مقابل أهمية الإقفال، نحن نشهد اليوم كارثة اجتماعية إلى جانب انهيار القطاع الصحي وعدا عن الواقع الإقتصادي الّذي يزيد من صعوبة الحال».
وحول ما يتطلّبه الوضع الآني يدعو أسمر «لضرورة تشكيل حكومة طوارئ اليوم، علّها تغيث الشّعب اللّبناني الّذي يقف أمام المحال التجارية والأفران ومحطّات المحروقات وأمام حاجاته عاجزاً، وذلك نظراً لأهمية وجود حكومة تيسّر وتسهّل تنفيذ الخطط المتّفق عليها لإغاثة العائلات الأكثر فقراً في لبنان». ويضيف: «المطلوب اليوم هو حوار ينتج عنه التطبيق الفوري والفعلي المدروس للتّعويض على العمّال الّذين يظلمهم قرار الاقفال إن كانوا عمّالاً مياومين في القطاع العام او الخاصّ، لأنّهم يدفعون الثّمن غالٍ، والأهم هو ضرورة التّنازل من جميع الأطراف السياسية للإسراع في تشكيل حكومة طوارئ لتنبثق وتَنشُل الشّعب قدر المستطاع من هذا الواقع الصّعب».
حكايا النّاس الموجعة
وعن معاناة الناس، ولالتماس صعوبة حكاياهم، يتحدّث سائق سيارة الأجرة - «التاكسي» خ.د. من منطقة راشيا، عن تجربته بعد الإقفال التّام بحكم أنّ «اللوحة العمومية ليست ملكه بل لوحة مستأجرة، لذلك عليهم أن يعملوا بشكلٍ يومي لكي يسدّدوا أجرها شهرياً»، فيلفت متأسّفاً إلى أنّ «الحال كان جيّداً بعض الشيء إذ كانوا يجنون بعرق جبينهم يوماً بيوم، لكن بعد بدء الإقفال التّام، توقّف عملهم فقد كان اعتمادهم على نشاط قطاع السّياحة كالمطار والفنادق لكنّ الحركة شُلّت»، ويضيف: «وجدتُ أنّ التوقف عن العمل أوفر لي، لأنني لم أستطع تسديد ايجار منزلي في بيروت، بحكم عملي في العاصمة والعمل اليومي لم يعد يكفي المصاريف الكبيرة وتصليح وصيانة السيارة، فعدت إلى ضيعتي بسبب شلل الحركة وتوقّفت عن العمل كليّاً».
أما عن حال الشّباب المياومين، فمنهم خرّيجي جامعاتٍ فرضت عليهم ظروفهم إن كان في القرى أو العاصمة وضواحيها وجبرتهم على العمل في مجالاتٍ بعيدة عن اختصاصهم، فتروي الشّابة ز.ج. التي تخرّجت من إختصاص الفندقية ولكن ليس بعجيبٍ أن تعمل في قطاع الزراعة مع جمعيّاتٍ في بلدتها في البقاع الغربي بسبب قلّة فرص العمل، وتشير ز.ج. إلى انّها «تعمل وتتقاضى على اليوم والسّاعة ويقتصر عملهم على ١٠ أيّام في الشّهر، ولكن مع الإقفال لم يستطيعوا المتابعة فينتهي الشهر ليجدوا أنفسهم عمالاً دون أجرٍ أو تعويض جرّاء الإقفال حتّى!».
وليتم التأكيد أكثر على واقع الشّباب اللّبناني المرير الّذي زادت من معاناته تداعيات جائحة كورونا، يروي الشّاب الجامعي ع.ع. الّذي تخرّج من اختصاص الصّحافة ليعمل في مكتبٍ للمحاماة ويلفت إلى أنّه «يتقاضى راتبه شهريّاً ولكن اليوم الّذي لا يعمل فيه لا يحتسب له»، ويضيف ع.ع.: «في الإقفال الجزئي كنت أعاني من صعوبة المواصلات فأستقلّ النقل العام، لأنّني لا أملكُ سيارةً خصوصية، ما كان يعرّضني بالمقابل إلى خطر الإصابة ونقلها لأهلي، لكن رغم حاجتنا للإقفال، فهو دون تعويض، يهدّد دخلي وبالتّالي الوضع المعيشي، الّذي أصبح صعباً للغاية».
ويجمع كلّ من هؤلاء الّذين يجسّدون أمثلة عن غالبيّة الشّعب الّذي يعاني جرّاء غياب عين الدّولة اليوم في فترة الإغلاق على أنّهم «يعلمون صعوبة الوضع الصحي وأهمية الإقفال ولكن المشكلة أن لا بديل لأجور النّاس الّتي يهدّدها توقف الأعمال والمؤسسات، وبالتّالي تنتج مشكلة عدم إلتزام النّاس وتخطّي القانون والإقفال، للعمل سرّاً». ويشدّد ع.ع. أيضاً على أنّ «المطلوب هو البديل، وهو حقٌّ للمواطن، فكلّ دول العالم خارجاً، تدعم شعوبها وتحفّزهم على الإلتزام عبر تقديم مبالغ مالية أو مساعدات معيّنة، والمواطن اللّبناني اليوم لا يطلب أكثر من تعويضٍ لأجره، أو سلّةً غذائيّة أو تقديماتٍ صحيّة وبالأخصّ مع صعوبة وغلاء المعيشة في لبنان الآن»، ويردّد ختاماً: «المواطن إذا توقّى كي لا يموت من «الكورونا»، لا يجب أن يموت من الجوع، والمطالبة بالتّعويض ليست «شحادة» بل هذا حقّ لنا لأنّ الدّولة هي من أخذت قرار الإقفال».
ما العمل.. وإلى أين؟
حال البلد إذاً على كفّ عفريت، سجالاتٌ كثيرة ولا شيء ملموس، إقفالٌ تامُّ يظلم فئةً كبيرةً من الشّعب بحكم غياب المساعدات ولا يزال قيد التمديد، «كورونا» يتفشّى، القطاع الصحي يناشد، الوضع الإجتماعي لا يطمئِن، وكلّ هذا مرتبطٌ بوضعٍ اقتصادي مدمّر، وحكومةٍ يبدو أنّها لن تعرف يوماً قريباً لولادتها، ولقاحٍ بدأ التخوّف من تأخّر وصوله إلى لبنان في حين أنّه يشكّل بارقة الأمل الوحيدة للنّجاة من شقٍّ مهمٍّ ضمن هذا الواقع السّوداوي. فما مصير المياومين اليوم إذاً جرّاء هذا الإقفال؟ وما مصير الشّعب اللّبناني عامّةً، جرّاء الزعزعة الحاصلة في منظومة الدّولة ككلّ؟ هل سيموت اللّبناني من الجوع والعجز أم من «كورونا»؟