وبالرغم من أن «دور المسنين» تهتم بالعناية بأمثالهنَّ، اللواتي اضطررن الى اللجوء لهذه «الدور» لأسباب مختلفة، وذلك من خلال مراكز متعددة تتمتع بكفاءات وقدرات ممتازة لرعايتهنَّ وتوفير سبل الرعاية الصحية والطبية التي ربما هي أحيانا أقدر من الأسرة وبخاصة لدى الأسر الفقيرة، إلا أن «دور المسنين» هذه تبقى مفيدة جدا للمسنات اللواتي لا أقارب لهنَّ.
باختصار، دار المسنين أو العجزة كما يسميها البعض هي المكان الوحيد الذي يلجأ إليه الكثير من المسنات والمسنين على حد سواء بعد نكران أبنائهم لكل التضحيات التي قاموا بها في حياتهم من أجلهم حتى يصلوا إلى ما هم عليه، لشعورهم بأنهم أصبحوا عبئا ثقيلا عليهم، خاصة في حالة الأمراض المزمنة، وهم الذين بالأمس ضحوا براحتهم وحياتهم من أجل فلذات أكبادهم.
لتسليط الضوء أكثر على معاناة الأمهات المسنات اللواتي وضعهنَّ أبناءهم في دار المسنين، قامت «اللواء» بجولة ميدانية وعادت بالآتي:
قدمت لهم عمري...
ولم أحظَ بلحظة حنان
{ ليلى سيدة في الـ65 من عمرها، بعد أن توفي زوجها أضاعت حياتها في العمل لتوفر طلبات أولادها وتدخلهم أهم الجامعات وتؤمن مستقبلهم، تقول:
- بعد أن كبرت في السن لم تعد لي أهمية في نظرهم فشكروني بوضعي وحيدة في هذه الغرفة.
لدي 3 أبناء طبيبان ومحامية، بعد أن زوجتهم وحرصت على أن أؤمن لهم كافة متطلبات العمل والحياة، ما أن تعرضت لحادث تسبب في شلّ حركتي، تغيرت معاملتهم لي وبدأت أرى الوجه الآخر لهم. وجه كله قسوة وتأفف، وأنا التي قدمت حياتي كلها لإسعادهم.
تبكي والدموع في عينيها، أخبروني أن لا قيمة لي بعد اليوم وأنني بت عبئا ثقيلا عليهم.
صدقيني أنني رغم ذلك لم أحزن، لكن ما أحزنني في الصميم أن إبنتي الوحيدة رفضت استقبالي في بيتها بدلا من أن آتي إلى «الدار» منزلها كبير وبإمكانها أن تخصص لي غرفة وتؤمن ممرضة إن لزم الأمر، كونها ميسورة الحال ولديها أيضا الكثير من الخدم، لكنها لم تقبل بحجة أنها لا تستطيع أن تتحمل مسؤوليتي.
صدقيني دخلت «الدار» منذ 4 سنوات وحتى اليوم أحداً منهم لم يسأل عني ولو مرة واحدة، على الأقل في الأعياد.
اليوم أنا أشكر ربي لأن هناك من يهتم بي في «الدار»، فكافة العاملين يحبونني دون ان أقدم لهم، شيئا بعكس من قدمت لهم عمري ولم أحظَ بلحظة حنان لدى احتياجي لهم. »
الواجب شيء وضرورة
المضي في الحياة شيء آخر
{ ناديا سيدة في السبعين من عمرها لم تتزوج وتؤسس عائلة لكنها اكتفت بتربية أولاد أخيها الذي قتل خلال الحرب الأهلية في لبنان، تقول:
- منذ أن توفي أخي قررت أن لا أتزوج لأربي أطفاله الثلاثة، ولا سيما أن والدتهم بحكم عملها كانت تضطر لأن تسافر بين الحين والآخر.
وهكذا انتقلت للعيش معهم وعاملتهم كأولادي تماما، خصوصا أن والدتهم بعد مضي 5 سنوات على وفاة أخي تزوجت من جديد وعاشت خارج لبنان.
وهكذا أصبحت أنا الأم والأب، وبالرغم من أنه كان يأتيني الكثير من «العرسان» لكنني كنت أرفض الموضوع تماما لكثرة تعلقي بأولاد أخي الذين أصبحوا ينادون لي: ماما.
صدقيني عندما كبروا وبدأوا العمل وشغلوا أهم المناصب، فرحت وشعرت أنني أنجزت مهمتي، لكنني لم أتوقع منهم أن يوافقوا على العمل في الخارج لدى أول فرصة تأتيهم.
صدمت جدا، خصوصا عندما علمت أنهم جميعا سوف يسافرون، فكروا بمصلحتهم ولم يفكروا لدقيقة بمن ربتهم وقدمت حياتها لهم.
للأسف قرروا بيع المنزل لتأمين ما يلزمهم من سيولة للسفر، وطلبوا مني الإنتقال لدار المسنين بحجة أنني هناك سأجد من يهتم بي.
وطبعا وافقت لأنني لا أملك سوى الموافقة بعد أن صرفت كل ما أملك على تربية أولاد أخي.
أنا لست نادمة، لكنني أتوجه لكل سيدة سواء كانت أماً وأ زوجة أو أختا أن تقوم بما يتوجب أن تقوم به دون أن تنسى نفسها، فالواجب شيء وضرورة المضي في الحياة شيء آخر.
صدقيني في اليوم الأول لدخولي «الدار» فهمت لما تزوجت إمرأة أخي ولم ترضَ أن تكمل حياتها مع الأولاد خصوصا وأنها كانت صغيرة في السن».
أشكر الله على «نعمة الزهايمر»
{ منى سيدة تبلغ الـ80 من عمرها، توفي زوجها منذ 5 سنوات، تحدثنا بمساعدة الممرضة التي ترافقها وتعلم بقصتها، تقول:
- في عمرالـ60 علمت أنني مصابة بمرض «الزهايمر»، لكن لم تكن المرحلة متقدمة واستطعنا أنا وزوجي أن نتأقلم مع الوضع رغم صعوبة الموقف.
في كل مرة كان يطمئنني ويؤكد لي أن شيئا لن يتغير المهم أن أبقى قوية، وفعلا بفضل العلاج تمكنا سويا من المضي قدما إلى أن توفي زوجي العام الماضي بحادث سير، وهذا ما لم يكن بالحسبان.
إثر ذلك، أتى ولديّ من أميركا على أساس أنهما سيأخذانني معهما للعيش هناك كونهما يعملان في مجال المحاماة، فطلبا مني توضيب الحقائب لأخذ ما يلزم.
لكن ما حصل أنهما جاءا بي لدار المسنين هنا بحجة أنهما يودان مقابلة صديق لهما، ليسافران بعدها دون توديعي.
بكيت كثيرا، لكنني الآن أشكر الله على «نعمة الزهايمر» لأنها تنسيني جحود ولديّ وما قاما به من فعل مشين بحق من ربتهما واستأمنتهما على حياتها، هنا لدي الكثير من الأبناء الذين يحبونني ويحتفلون لي بعيد الأم(تبكي)».
أشكو أمرهم لله وحده
{ سمر سيدة آمنت لقلبها فقررت الإرتباط برجل أرمل لديه 4 أولاد، تقول:
- عندما تعرفت على وسيم شعرت أن هذا هو الرجل الذي أحلم به، خصوصا وأنه يتمتع بكافة المواصفات التي تجذب أي إمرأة.
لم أهتم بأنه كان متزوجا ولديه 4 أولاد، بل العكس قررت أن أحرم نفسي من الخلفة لأربي أولاده فقط.
وبالفعل هذا ما حصل، وبما أنني ميسورة الحال علَّمت الأولاد بأفضل المدارس والجامعات وقدمت لوسيم كل الدعم المادي في عمله وتحملت غيابه عن المنزل بداعي السفر بحجة العمل... كل ذلك قمت به.
كان دوما يطلب مني أن أكتب له وكالة ليدير أعمالي، لكنني دوما كنت أرفض إلى أن جاء يوم ووافقت، خصوصا أنه على مدى سنوات لم أرَ منه سوى كل الخير.
لكن للأسف، ما أن حصل على الوكالة حتى نقل كافة الممتلكات والأموال لإسمه، وبدلا من أن يكافئني على وقوفي جنبه طوال هذه السنوات عاملني بقسوة، حتى أنني تعرضت للضرب والشتم من قبل أولاده، الذين قاموا بطردي من المنزل لأعلم بعدها أنه كان متزوجا في الخارج ولديه طفلان.
حينها توجهت بنفسي لـ «الدار» لأمضي بقية حياتي بهدوء دون حاجة أحد، أما هو وأولاده فأشكو أمرهم لله وحده.
وهنا أشكر والدتي التي لولاها لكنت الآن على قارعة الطريق، كانت دوما تقول لي خبئي بعض المال للزمن وهذا ما حصل، فأنا كنت دوما أتبرع لدار المسنين هذه كي تؤمن «آخرتي» لكن لم أتوقع أن «آخرتي» ستكون قريبة بهذا الشكل.
صدمتي كبيرة لكن ما يخفف من وطأتها أن المحبين في هذه «الدار» كثر، وهم يحتفون بي بكل مناسبة خصوصا في الـ21 من آذار.
ونحن بدورنا، لا ننسى أن نحيي كافة الجهود التي تقوم بها «دور المسنين « لجهة رعاية كبارنا، لكننا في الوقت نفسه نأمل من الأبناء أن لا يتقاعسوا في الواجبات تجاه أوليائهم وأن يحسنوا معاملتهم وينفقوا عليهم عند كبرهم ويردوا لهم ولو جزءا من الجميل الذي لا يساوي شيئا أمام التضحيات التي قدموها من أجلهم.
وجب علينا جميعا الاعتناء بالوالدين مهما كانت الظروف، وأن لا نوكل المهمة لغرباء يجدوا في كنفهم ما فقدوه في أولادهم الذين هم من لحمهم ودمهم، علينا احترامهم وعدم جرح مشاعرهم أو كرامتهم، وفي حال اضطررنا لوضعهم في دار للمسنين لظروف معينة علينا أن نبقى على تواصل دائم معهم وبشكل يومي لنشعرهم ونؤكد لهم أنهم كانوا وسيبقوا جزءا لا يتجزأ من حياتنا.
وختاما، إسمحوا لي أن أتوجه بالمعايدة لوالدتي هدى سبب وجودي ونجاحي في هذه الحياة، التي لولاها لما كنت ما أنا عليه اليوم، كل عام وأنت أغلى الناس على قلبي، وكل عيد وجميع الأمهات بألف خير .