بيروت - لبنان

اخر الأخبار

14 شباط 2022 09:36ص «مهندس التسويات».. كيف جال رفيق الحريري بين متاريس المتحاربين وانتصر؟

حجم الخط
إنها الذكرى الـ 17 على لبنان ما بعد رفيق الحريري، يوم الـ 14 من شباط 2005 كان اغتيال الشخص ومعه المشروع، ليحلّ مشروعٌ آخر نعاين حممه البركانية المتسربة اليوم من تشققاته التي بدأت منذ ذاك التاريخ، بانتظار لحظة التدفق من الفوهة منهية تمهيدات سنين.

يربط المعاينون لتلك الحمم، من منطلق الخبرة، ما تشهده الساحة المحلية اليوم من توتّر، بفترة التمهيد لاغتيال رفيق الحريري، انما من باب آخر، ظن كثيرون أن فاجعة 4 آب 2020 ستؤسس لمرحلة جديدة تمامًا كما أسس استشهاد الحريري لفصل جديد، إلا أن ما تبيّن أن الانفجار ليس آخر الغيث بل أوله.

من هنا نسأل، هل نعيش اليوم في جو أقل من حرب أهلية وأخطر منها؟ وانطلاقًا من اعتبار الرئيس رفيق الحريري أن من يُقدم على قتله يقتل نفسه، نسأل: من دفع الثمن القتلة أم لبنان والمنطقة؟

للإجابة على الشق الأول، علينا استعراض مراحل لبنان، قبل ومع وبعد رفيق الحريري، قبله كانت مرحلة الدماء والمتاريس والتقسيم شرقًا وغربًا، في داخل هذه المعجنة، بدأ دور رفيق، القادم من خلفية «قومية عربية»، والحائز على ثقة الديوان الملكي السعودي، الذي اختاره قياديوه ليقود جهود استمرت 10 سنوات بهدف التسوية بين المتحاربين حتى قبلوا ​بإتفاق الطائف.

من زامن رفيق يروي عنه مزايا الفكر التسووي غير المؤمن بالحروب والثورات غير المدروسة والانقلابات والحسم بالقوة، استذكر جملة قالها لي أحد النواب السابقين فحواها أن رفيق الحريري كان يستيقظ في كل صباح ويبدأ بالتفكير كيف ينهي ما هو شائك بتسويات جديدة على قاعدة «لا يموت الذئب ولا يفنى الغنم».

استطاعت الجولات المكوكية بين المتحاربين، بالتزامن مع وصل رفيق لنفسه بشبكة من العلاقات الدولية والصداقات الشخصية مع رجال السياسة والاقتصاد الدولي، أن تؤسس فترة جديدة من الاستقرار في لبنان انطلقت بعد عام 1990، ففي فترة رئاسته الاولى للحكومة (1992-1998) ارتفعت نسبة النمو في لبنان إلى 8% عام 1994، وانخفض التضخم من 131% إلى 29%، واستقرت أسعار صرف الليرة اللبنانية، إثر سياسات مالية ترافقت مع ورشة اعمار أمحت الجزء الكبير من آثار الحرب.

حماسة رفيق للإعمار تزامنت مع تفاؤله بوصول مؤتمر مدريد للسلام عام 1992 لخواتيم سعيدة تؤمن استقرار لبنان والمنطقة، فهو لم يحصر اهتماماته بزواريب السياسة المحلية، وعاد ليجمع العرب في بيروت عام 2002 تحت عنوان «الأرض مقابل السلام»، وما زالت مندرجات هذه القمة ثابتة بما يخص الموقف العربي من القضية الفلسطينية ولو أن ما نشهده اليوم يصيبها بشظايا.

بعد رفيق، صمد لبنان اقتصاديًا بوجه متفجرات 2005 وغارات 2006 ورصاصات 2008، استمر الصمود ليوم الانقلاب على حكومة نجل رفيق الأولى عام 2011، ليبدأ بعدها مسار الانهيار بالأرقام، لا بالرأي السياسي. من هنا، صدق رفيق الحريري عندما رفض مبدأ الثورة أو الانقلاب على ما هو موجود، على اعتبار أن هذا الأسلوب وإن أدّى الى إنهاء عهد سابق بغض النظر عن مساوئه، فإنّه لا يضمن التغيير الى الأحسن، وهذا ما حصل.

الى الشق المتعلّق بسؤال «من دفع الثمن لبنان أم القتلة؟»، الجواب نأخذه من حال لبنان اليوم، المنبوذ دوليًا بإرادة الطرف الحاكم، وغير المستغل لأي باب دولي موارب يعيد الأمل، فحتى لو جارت الأيام على قتلة الحريري أو من أرادوا ازاحته وامتلأت أيامهم غبارًا ودمارًا، فهؤلاء يسحقون ما يقابلونه في دربهم نحو جهنم، ولا يأبهون.

لم يستقر لبنان ويزدهر بتاريخه الحديث إلا خلال فترتين، فترة ما قبل 1969 حينما كان نموذج لبنان «لادارة بلد متعدد الأطياف من العالم الثالث» يُدرّس في جامعات الغرب، وفترة التسعينات مع محاولات رفيق الحريري ومن خلفه في العقد الأول من الألفية الثانية لاستجلاب فسحات قليلة من الاستقرار.

لو كان رفيق، لكان حجر عثرة أمام مشروع التدمير الممنهج في المنطقة، ما كان ليفرح لدمار سوريا وهو الذي طرح قضية تطوير النظام الاقتصادي في سوريا وإخراجه من مستنقع الحماية الاقتصادية، ايمانًا منه بإمكانية لبننة النظام السوري لتصبح قضية الوصاية ثانوية. لو كان رفيق لما تجاهل الجرح العراقي النازف منذ 2003، والخرق القاتل لليمن، وربما.. ما كان ليكون مصير تلك الدول بهذا الغباش لو اجتمع العالم على رؤية خالية من الدماء.

نجاح التسويات برأي رفيق، يحصل إذا كان جميع الأطراف يملكون الارادة للتسوية، وتاليًا ما أفشل التسويات المتتالية من بعده هو «الانقلاب» على ما اتفق عليه من أحد الأطراف، والى أن نصل مجددًا الى زمن تجتمع فيه الجهود على التقدّم والازدهار، ولا يكون فيه لبنان منصة تخدم أجندات تخريبية للمنطقة، سنبقى نتشوّق لزمن رفيق.