اعتاد اللبنانيون على تلبية حاجاتهم على قاعدة «ما حكّ جلدك مثل ظفرك» لأن التجارب التي مرّوا بها خلال نصف قرن دلّت على أن حكوماتهم غالبًا ما تقع في التناقضات والصراعات فتتعثّر ثم تختفي غير آبهة بمصير الشعب وما سيحلّ به في غيابها. اليوم هناك حكومة حائزة على ثقة المجلس النيابي لكنها لا تجتمع، تُحصي المشاكل والأزمات لكنها لا تقدّم حلًا، تتمتع بدعم دوليّ مشهود لكن أحدًا من الداعمين لا يقدّم قطرة ماء تروي ظمأ اللبنانيين، حكومة موجودة لكنها غائبة.
لم يكن ينقص اللبنانيين سوى أزمة النقد التي أطاحت بالعملة الوطنية وبخزينة الدولة والبلديات وبمدّخرات جنى عمرهم في المصارف فاختفى قرشهم الأبيض ولم يبقَ لهم سوى القهر والمرض والقلق على المصير. ارتضى اللبنانيون أن يعضّوا على الجرح ويتدبروا أمورهم بأنفسهم من جديد لتعاجلهم الظلمة بعد غياب كهرباء الدولة وارتفاع أسعار المازوت بصورة جنونية لتضعهم أمام استحالة تسديد اشتراكات المولّدات الخاصة فبدأ الظلام يخيّم فوق لبنان ولم يبقَ للبنانيين سوى أن يذرفوا الدموع في العتمة القاتمة.
العدوّ الإسرائيلي هدّد لبنان بإعادته إلى العصر الحجري إلا أنه فشل وخاب فأله، لكنّ من يتولى المسؤولية في لبنان نجح بكل أسف في إحياء زمن «القنديل والسراج الخافت» دون أن يعيد إلى نفوس اللبنانيين براءة عهد القنديل وصدق وشهامة ذلك العصر. لبنان المشعّ الذي ملأ الدنيا بسحره وأنواره المتلألئة يستجدي اليوم من الآخرين نورًا بسيطًا ليحتفل بساعة تغذية إضافية بالكهرباء.
النكبات تتوالى منذ نكبة انفجار مرفأ بيروت إلى نكبة التليل ثم مأساة الطيّونة وعين الرمّانة، والأعظم نكبة الظلام ونكبة غياب السلطة وانعدام المسؤولية، ففي الظلام يسرح اللصوص ويمرحوا، وفي غياب السلطة تدبّ الفوضى ويعمَّم مشهد برج بابل. ولكنّ الظلام لم يقتصر على المواطنين بل أعمى عيون المسؤولين القابعين في المطامع والنزاعات، بعد أن صُمّت آذانهم عن صرخات آلام اللبنانيين وأوجاعهم، والحسنة الوحيدة للظلام القاتم هي عدم رؤية وجه لبنان المشوَّه.
ولئن تعذر استقدام الوقود إلى محطّات توليد الكهرباء، يبقى الحلّ الوحيد كامنًا في استعادة زمن الإستقامة والحسّ بالمسؤولية ليحلّ محلّ زمن المحاصصة والزبائنية والمصالح الخاصة. ولن تستطيع كل ظلمة العالم أن تطفىء نور شمعة واحدة تشعلها الشفافية والنزاهة.