اعتاد اللبنانيون على هجرة أجيال الشباب بحثاً عن مستقبل آمن، وسعياً لطموح ناجح، ورغبة في عمل لائق، بعدما فقدوا الأمل في تحقيق أحلامهم في بلدهم المنكوب بدولته وحكامه.
أما أن يضطر أهل الحكمة وأصحاب الخبرات على مغادرة الوطن في هذه الظروف الصعبة والبالغة التعقيد، فتلك صورة قاتمة من صور المآسي التي يعيشها هذا الشعب المقهور على إيدي أهل السلطة الذين يشيحون بنظرهم عن معاناة الناس، ولا يسمعون أنين المريض، ولا خوار الجائع، ولا صراخ الأم التي لا تجد ما يسد رمق أطفالها.
لم أصدق للوهلة الأولى ما سمعته من الصديق الخلوق، وصاحب الإيمان الرفيع والأخلاق الحميدة عبد الفتاح خطاب عن قراره بالعودة إلى وطنه الثاني كندا، بعد أكثر من ربع قرن على عودته من السعودية للعمل في الوطن الأم، والعيش في المدينة التي ترعرع فيها وورث حبها عن أجداده، وأبرزهم صاحب المقهى التراثي «الحاج داوود»، الذي دمرته الحرب وإندثرت آثاره تحت جبال النفايات في مكب النورماندي.
وبعد ربع قرن من العمل الدؤوب، والتضحيات الصامتة، والإخلاص الأعمى في العمل، وجد نفسه فجأة على قارعة الطريق، من دون سابق إنذار، ومن دون حصوله على حقوق الصرف الكيفي بحجة أنه بلغ سن التقاعد، في مؤسسة لا يحدد نظامها للتقاعد سناً، ولا يُخصص له نصاً.
لم يشفع له أنه كان يُكلّف بتمثيل المؤسسة وصاحبها في المحافل والمناسبات الوطنية والدينية والثقافية في بيروت، ولا استعداده لافتداء المؤسسة بدمائه عندما ترك عائلته في ذلك اليوم المشؤوم من أيار ٢٠٠٨، وهرع إلى مكاتب المؤسسة لحماية ملفاتها وأسرارها من عبث العابثين، وسلاح المسلحين.
داهمته الأمراض والأوجاع فلم يجد بوليصة التأمين بجيبه، فتحمّل بصبر المؤمن وصلابته، آلام الجسد، ونكبات الغدر، إلى أن قرر الذهاب إلى وطنه الثاني منذ ثمانينيات القرن الماضي، حيث تعود إنسانية الإنسان في كنف شبكة الأمان الاجتماعي الكندية، ويشعر المرء بالأمن والأمان والاستقرار، ولو كان في العقد السادس من عمره!
«أبو مازن» قامة كبيرة ستفتقدها بيروت، وخسارة جديدة في سجل الخسائر اليومية التي تستنزف الوطن.