منذ تخلّف لبنان عن سداد أقساط من ديونه دون التفاوض مع دائنيه أو طلب إعادة جدولة استحقاقاته، ارتسمت صورة قاتمة راحت تقضّ مضاجع اللبنانيين، ولم يعد من قبيل التشاؤم التحذير من بلوغ لبنان أسوأ مرحلة في تاريخه، لا بل أن توالي الوقائع السلبيّة كان ينذر بدخول مرحلة أسوأ بكثير، وتعدّدت التحذيرات من أن نصل إلى النموذج القبرصي أو اليوناني أو الفنزويلي، لكننا انزلقنا إلى ما هو أخطر بكثير.
طيلة هذه الفترة، شعرتُ من منطلق حسّي الوطني أن من واجبي مصارحة اللبنانيين وإطلاق الصرخات لتلافي إغراق الشعب اللبناني في طوابير الذلّ والمهانة، فحاولت الخوض في مكامن الخلل والبحث الجدّي عن مشاريع الحلول، ولم أكتب من فراغ أو بهدف التسلية بل إنطلاقًا من كلام الشاعر العظيم نزار قباني الذي قال «أن المبدعين يصرخون كل واحد بطريقته». الشاعر بشعره،والرسام بألونه، والموسيقي بأوتاره، وحتى الطبيعة لا تتوقفت عن الكلام، فالريح تتكلم، والرعد يتكلم، والموج يتكلم، والزلزال يتكلم، والاعاصير تصرخ بعصبية، وعالم الحيوان هو الآخر لا يتوقف عن الهديل، والصهيل، والنباح، والمواء والزمجرة».
لكنّ مهزلة إنكار الواقع عند المسؤولين تحوّلت إلى تقاطع للمشاكل والأزمات والكوارث وأشدّها إيلامًا كان انفجار العصر في مرفأ بيروت الذي أدمى القلوب بهول نتائجه من قتلٍ وجرحٍ وإصابة الآلاف من الأبرياء وتدمير ربع العاصمة بيروت، فيما غرِق لبنان ـ نتيجة انهيار عملته الوطنية ـ في أزمات الخبز والمحروقات والأدوية، وتراكم جبال النفايات والمرض، وتلوّث مياه البحر والأنهار والينابيع والهواء، وأزمة الكهرباء والمياه، إضافةً إلى كارثة المصارف التي جعلت أموال المودعين وجنى عمرهم في مهبّ الريح.
أما الشعب الغارق في حبّ جلاّديه، فقد دخل السجن الذي أُعدّ له وبات يعشق الاتحاد مع جميع الشعوب، ونسي وحدته الوطنية وبات متحمسًا للتضامن مع قضايا كل الشعوب، إلا مع قضاياه المصيرية.
الآن تذكّرت ما قاله وليام شكسبير William Shakespeare: «أحيانًا، نصرُّ على الصمت، لأنّ هناك أشياء لا يعالجها الكلام...»، وتأكدتُ أن المناداة بتصحيح الأوضاع باتت صرخةً في وادٍ ليس إلاّ، وأنّ حبري قد جفّ، فقرّرت أن أستودع القرّاء مرحليًا، لأبدأ الرحلة من الكلام إلى الصمت.