بيروت - لبنان

اخر الأخبار

29 أيلول 2022 12:00ص التعليم في زمن ما بعد كورونا

حجم الخط
د. خالد صلاح حنفي*

شهدت أنظمة التعليم في العالَم في العام الماضي اضْطراباً غير مسبوق بفعل جائحة كورونا، فأغلقت مُعظم مَدارِس العالَم وجامعاته أبوابها أمام أكثر من 1.5 مليار دارِس، أي ما يزيد على 90% من إجمالي الدّارسين، وذلك بحسب إحصاءات منظّمة اليونسكو. ويرى خبراء التعليم أنّ التعليم ما بعد كورونا لن يكون كما كان قبله، ولا سيّما مع استخدام مُعطيات الثورة الصناعيّة الرّابعة، وأنظمة الذكاء الاصطناعيّ، وأنّ ثمَّة تحوُّلات متوقَّعة كبيرة وهيكليّة في أنماط التعليم وأساليبه وسياساته، ونُظمه، وقد بدأت بوادر هذه التحوّلات بالظهور فعلاً.
يرى الكثير من الخبراء والباحثين أنّه عندما تتراجع شِدّة الجائحة، وتبدأ الدول في فتْح مَدارسها أمام الطلّاب - وسيكون ذلك غالباً على مراحل - فإنّ ثمَّة تحوُّلات مُهمَّة سوف تطرأ، بدرجاتٍ متفاوتة وفقاً للإمكانات الماديّة والخطط التي تعتمدها كلّ دولة، وسيشهد قطاع التعليم الأساسي أوضاعاً جديدة في كثير من دول العالَم من بينها:
1- التباعُد الاجتماعي: سيكون الولوج إلى الفصول الدراسيّة مُتدرِّجاً، وسيُراعي على نحوٍ مدروس قواعد التباعُد الاجتماعي؛ فلا مُصافحات ولا تقارب جسديّ، وستبقى كثير من الأنشطة الاجتماعيّة مُعلَّقة.
2- تعدُّد فترات الدوام داخل المدرسة الواحدة: فَرَضَ التباعُد الاجتماعي بين الطلّاب عدداً أقلّ منهم داخل الفصل. وصار من الضروري أن تعمل المؤسّسات التعليميّة على فترتَين، وربّما على ثلاث كلّ يوم، بخاصّة في المَدارس المُكتظَّة بالطلّاب، ما يراكم مزيداً من الضغوط على أعضاء هيئة التدريس والطاقم الإداري.
3- تراجُع الإقبال على الدراسة في الخارج: تأثَّرت كُلّ أشكال التعليم الدولي بالجائحة، وسيستمرّ ذلك لبعض الوقت على الأقلّ، ويمتدّ هذا التأثير إلى خطط الدراسة في الخارج وبَرامج التدريب وتبادُل الخبرات.
4- اكتساب المُتعلّمين مهارات جديدة: نتيجة فترة الحَجْر المنزلي، صار الطلّاب على دراية أكبر بأدوات تكنولوجيا التعليم ووسائله، مع تمتّعهم بالقدرة الكافية على التحكُّم في تعلُّمهم، كما اكتسبوا الخبرات في عديد من التطبيقات الجديدة المُتاحة، التي يُمكنهم استخدامها للدراسة والتعلُّم.
5- إعادة تعريف دَور المُعلِّم: سيتغيَّر مفهوم دَور المُعلِّم باعتباره صاحب المعرفة الذي يُضفي الحِكمة على طلّابه، بخاصّة مع توسُّع دوائر ولوج الطلّاب إلى المَوارد المعرفيّة عبر نُظم التعليم الرقمي التي يتقلَّص فيها دَور المعلِّم التقليدي.
6- تقليل الاعتماد على الكُتب المدرسيّة الورقيّة: يحمل التلميذ في المُتوسِّط عند ذهابه إلى المدرسة في مدرسة هنديّة على سبيل المثال، ما بين ثلاثة إلى ثمانية كيلوغرامات من الوزن كلّ يوم. وعادةً ما يحمل إلى جانب الكُتب الدراسيّة والمُفكِّرات، صندوق غذاء، وزجاجة ماء. إلّا أنّ استخدام التكنولوجيا سيُساعد على التخلُّص من بعض هذا الوزن، حيث ستَعتمَد الواجبات المدرسيّة بشكلٍ مُتزايد على الشبكة الرقميّة.
7- تحوّلات في المَناهج الدراسيّة: وهذه التحوّلات سوف تفرض نفسها، لتواكِب واقع ما بعد الجائحة، بخاصّة مع ظهور برامج تعليميّة جديدة، تتبنَّى الاستراتيجيّات الذكيّة في بناء المُحتويات التعليميّة، عبر استخدام أحدث التطبيقات، التي تُطوِّرها الشركات وكُبرى المؤسّسات في قطاع التعليم. وبحسب تقريرٍ صادرٍ عن مؤسّسة البحوث السوقيّة Global Market Insight، فإنّه من المُتوقّع بحلول العام 2025، أن يتجاوز حجْم سوق هذه التطبيقات التعليميّة على المُستوى العالَمي 300 مليار دولار أميركي؛ وعلى المُستوى العربي بحسب «مؤسّسة دبي المُستقبل»، فإنّ حجْم سوق التقنيّات التعليميّة في دولة الإمارات العربيّة المتّحدة وحدها سوف يتجاوز 40 مليار دولار بحلول العام 2022.
8- تغيّرات في نُظم تقييم الطلبة: إنّ مُعطيات ثورة التقنيّة الحديثة، ستُساعد المُعلِّمين على التعامُل مع التقييم، وتتبُّع أداء كلّ طالب ووضْع الدرجات على نحوٍ عادل، ما سيُتيح للمُعلّمين مزيداً من الوقت والجهد للتركيز على تحسين الدورة التعليميّة وجودة التدريس وتطوير الكفاءة.
التجارب العالَميّة والعربيّة لإعادة فتْح المدارس
تنوَّعت جهود الدول في إعادة فتْح مدارس التعليم الأساسي عقب انحسار الجائحة، فقد قرَّرت الحكومة الدانماركيّة مثلاً، فتْح المدارس الابتدائيّة أمام التلاميذ مُنذ شهر أيّار (مايو) 2020 ووَضعت نظاماً جديداً للدوام الدراسي، يقوم على قواعد رئيسة، أبرزها:
- تقسيم التلاميذ إلى مجموعات صغيرة، فلا يزيد عددهم في كُلّ مجموعة على (12) تلميذاً، وهو العدد المُناسب لمساحة حُجرة الدراسة، في إطار قواعد التباعُد الاجتماعي، بحيث يقضي التلاميذ وقتهم في المدرسة، في ما يُشبه الشرانق الافتراضيّة من دون أن يكونوا عرضة للآخرين.
- دخول المجموعات الصغيرة من التلاميذ إلى المدارس في أوقات مُختلفة من الصباح، وتناولهم الغداء مُنفصلين، بحيث لا يُفارقون المناطق المُحدَّدة لمجموعتهم، فيما تتلقَّى كلّ مجموعة دروسها على يد معلّم واحد.
- تطبيق بعض المَدارس، التي ليس لديها فصول كافية نظام الفترتَين (فترة صباحيّة، وفترة بعد الظهر).
- الاهتمام الشديد بالنظافة وتخصيص فُسحة من الوقت، كُلّ فترة، من أجل غسل الأيدي مع حِفظ المسافات بين التلاميذ، في مجموعات مُنعزِلة.
- قيام المُعلِّم الذي يُعاني هو أو أحد أفراد أسرته من مُشكلة صحيّة، بالتدريس باستخدام الإنترنت من المنزل.
وقامت ألمانيا بإعادة فتْح المؤسّسات التعليميّة للطلبة الكبار مع تطبيق قواعد التباعُد الاجتماعي بشكلٍ أكثر صرامة، والتشديد على ارتداء قناع الوجه، فهناك مكان مُخصَّص لكُلّ طالِب، والتفتيش الصحّي مُستمرّ على مَدار ساعات الدوام، فإذا تبيَّن وجود طالب مُصاب بالفيروس، يتمّ الإسراع في عزْله، ومَعرفة مَن كان يجلس قريباً منه، لاتّخاذ التدابير المُناسبة، وإجراء عمليّات المَسْح. وقد أصبحت الممرّات في المَدارس ذات نظام الاتّجاه الواحد، للحدّ من الاحتكاك بين الطلّاب، وتوزيع وقت الراحة بطريقة التناوُب بين المجموعات الطلّابيّة. ويتّسم اليوم الدراسي بالقِصر، كما أنّ التدريس يكون خليطاً في الفصول التقليديّة، وعبر الإنترنت، وكُلّ مجموعة دراسيّة تتألّف من 10 طلّاب، ولا يُسمَح بأكثر من ذلك.
وقد أدّت جائحة كورونا في العالَم العربي مع بداية آذار (مارس) 2020 إلى إغلاق المدارس والجامعات، وتعليق الدروس حضوريّاً، ونتج عن ذلك انقطاع حوالي 86 مليون متعلّم عربي عن الدراسة. وإزاء هذا الواقع، وَجدت الدول العربيّة نفسها أمام خيارَين لا ثالث لهما، إمّا التعليم عن بُعد، أو لا تعليم؛ فكانت النتيجة، توجُّه الدول العربيّة نحو التعليم عن بُعد، وتنوّعت التقنيّات والوسائل المُعتمدة من وزارات التربية لضمان استمرار عمليّة التعليم التي تمّ تعليقها حضوريّاً، وتمّ الدمْج بين مختلف أشكال التعليم من خلال منصّات وتطبيقات إلكترونيّة كالتيمز والبلاكبورد وسكايب والزوم ومودل وأدمودو وفصول غوغل الإلكترونيّة، فضلاً عن استخدام البثّ التلفزيوني والإذاعي. كما شكّلت وسائل التواصل الاجتماعي (الفيسبوك، والواتس أب، والتليغرام) مساحة واسعة من الوسائل التي تمّ اعتمادها في العمليّة التعليميّة، وأبقت بعض الدول على تقديم الموادّ والمحتوى التعليميّ بشكل ورقيّ، خصوصاً للمتعلّمين الذين يعانون من مشكلات تقنيّة.
وأطلقت المَملكة العربيّة السعوديّة قنوات «عَين» للدروس التعليميّة لتُواكب ما فرضه الواقع من تحدّيات، ودُشِّنت منصّة التعليم التفاعلي «منصّة مدرستي»، التي تتضمَّن منذ انطلاقتها الأولى أكثر من 45 ألف محتوى تعليميّ متنوِّع، وأكثر من 450 ألف خطّة درسٍ إلكترونيّ بمُشاركة المُعلّمين، وتمثّل هذه المنصّة التفاعليّة مُحاكاةً افتراضيّة للواقع التعليمي، حيث يبدأ اليوم الدراسي لتلاميذ المرحلة الابتدائيّة في الساعة الثالثة عصراً، ولطَلبة المرحلتَين المتوسِّطة والثانويّة في تمام الساعة التاسعة صباحاً. وعقب تسجيل الدخول، يؤدَّى النشيد الوطني، ثمّ تمارين رياضيّة، بعد ذلك يُعرَض الجدول الدراسي، ويبدأ الاستماع لشرْح الدرس المُجدوَل، وأداء المهامّ والتكليفات المُقدَّمة من المُعلِّم.
واستَحدَثت وزارة التربية إدارة عامّة للتعليم الإلكتروني، لتكون المظلَّة الرسميّة لمنظومة التعليم الإلكتروني الموحَّد الذي يستفيد منه المعلِّم، وينمو دوره في التوجيه والإشراف على تعلُّم الطلّاب، ويشارك الطالب بفاعليّة أكبر مُعتمداً على ذاته في الحصول على المعلومات، وتنمية مواهبه، مُستفيداً من الأنشطة التعليميّة المُختلفة. ويُتاح لوليّ الأمر المُتابعة بشكلٍ مستمرّ للمُستوى الدراسي لابنه، ويُصبح مؤثِّراً في رسْم خارطة جودة التعليم، من خلال مشاركاته في الاستبيانات والنقاشات، فالتغذية الراجعة من الآباء والأمّهات يُعتَدّ بها لتحسين الأداء والجودة.
وكانت دولة الإمارات العربية المتحدة سبّاقة في اتّخاذ إجراءات سريعة لمنْع تفشّي «كوفيد-19»، فقد علَّقت الدولةُ الدراسةَ في المَدارس والجامعات لمنْع تجمّعات الطلّاب، ونظَّمت برنامجاً لتعقيم المَدارس والجامعات ووسائل نقْل الطلّاب، وأَعلنت عن بدء مرحلة التعليم عن بُعد للطلّاب بعد انتهاء إجازة الربيع لمُتابعة العام الدراسي. كما أَطلقت هيئةُ المعرفة والتنمية البشريّة منصّةَ «دبي صفّ واحد» لتكون مصدراً يدعم الحصول على أقصى فائدة من التعليم عبر الإنترنت والتعليم عن بُعد.
التعليم عن بُعد خيار الحاضر والمستقبل
اضطرّت دول العالَم لتبنّي نُظم التعليم عن بُعد، والتعلُّم الهجين أو المُدمج كنتيجة لغلْق المَدارس والجامعات كليّاً أو جزئيّاً لضمان استمرار العمليّة التعليميّة، وقد تباينت نتائج التطبيق؛ ففي دراسة أميركيّة حديثة، تضمَّنت تحليلاً لطبيعة تحوُّلات نِظام التعليم في 213 مؤسّسة تعليميّة، تبيَّن أنّ التعليم المُدمج صار الأسلوب السائد في هذه المؤسّسات، لكونه فعَّالاً، ويُفضّله أغلب الطلّاب، كطريقة تعليم مُحفِّزة. وأوضحَ تقريرُ الرابطة الأوروبيّة للتعليم الإلكتروني EADTU حول مُستقبل التعليم في أوروبا وجود زيادة كبيرة في عدد المؤسّسات التعليميّة التي اعتمدت على نموذج التعليم المُدمج بجميع مراحل التعليم؛ ويرجع ذلك إلى فاعليّة هذا النموذج في رفع مُستوى مهارات الطلّاب أو المُعلِّمين، وقدرته على مُواجَهة الأعداد المُتزايدة للطلبة، كما أنّه يزيد مُستوى جودة العمليّة التعليميّة. وقد أكَّدت اليونسكو أهميّة التعليم المُدمج، باعتباره نَهجاً يُعزِّز التعلُّم، ويدفع نحو تحقيق الهدف الرّابع من أهداف التنمية المُستدامة الوارد في التقرير الأممي المعروف باسم Education 2030.
وقد تزايد الاتّجاه نحو تطبيق تقنيّات الذكاء الاصطناعي من أجل تعزيز التعليم عبر الإنترنت، وبرمجيّات التعلُّم التكيّفيّة، وأدوات البحث التي تُتيح للطلّاب سُرعة التفاعُل، والاستفادة من المعلومات، واكتساب المهارات، واستخدام الروبوتات في التدريس بصورة متزايدة، ولا سيّما بعد نجاح تجربة الروبوتات التي تقوم بتدريس اللّغات، وتدريس الموادّ الأساسيّة في الصين، وبعض البلدان الإسكندنافيّة. وتؤكِّد الدراسات أنّ استخدام تلك التقنيّات يفيد تقدُّم الطالِب في مَساره التعليمي، ويُساعد الطلّاب المُتعثّرين، إلّا أنّ الدمْج الفعَّال لهذه التقنيّات الجديدة في المَناهج الدراسيّة يتطلّب التخطيط الجيّد، وتوفير المَوارِد اللّازمة.
ختاماً، لا بدّ من القول إنّ الظروف الرّاهنة أَثبتت بما لا يَدع مجالاً للشكّ أنّ التعلُّم عن بُعد هو السبيل الوحيد أمام النُّظم التعليميّة في ظلّ استمراريّة جائحة كورونا، وما تفرضه طبيعة العصر من ثقافة رقميّة يلزم كلّ إنسان معرفة مفرداتها والتعامُل معها، لكونها الحاضر والمستقبل. لذلك فعلى واضعي السياسات ومُخطّطيها تبنّي التعلُّم عن بُعد، وتوفير متطلّباته، واستثمار التجربة الراهنة ونتائجها في إجراء تطويرٍ شامل للتعليم ومُدخلاته وعمليّاته ومُخرجاته، وذلك حتّى تتحوّل مِحنة كورونا إلى منحة، وحتّى تُسهم كورونا في التحوُّل نحو الانتفاع بالتعلُّم عن بُعد.

* كليّة التربية - جامعة الإسكندريّة
بالتعاون مع مؤسسة الفكر العربي - نشرة «أفق»