افتتحت جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية الأسبوع الماضي مبنى البازركان بمساعدة كريمة من البنك الإسلامي للتنمية في المملكة العربية السعودية وكان هذا المبنى قد أصيب بأضرار جسيمة خلال الحرب الأهلية . والمبنى مقام على قطعة أرض من الأوقاف التي ضمت لجمعية المقاصد منذ تأسيسها سنة 1879م.
احتفلت جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية في بيروت يوم الجمعة 10/7/1899 في المكتب الابتدائي في سوق البازركان بتوزيع الجوائز على مستحقيها بحضور علماء وأدباء واختتم بالدعاء للسلطان والثناء على مكرمتلو الشيخ علي أفندي فاخوري (إبن مفتي بيروت الشيخ عبد الباسط) مدير المكتب لما بذله في خدمة العلم ( لسان الحال عدد 1871 /1899).
كتيب أعمال السنة الاولى
جاء في الكتيب الذي اصدرته الجمعية عن أعمال السنة الأولى لتأسيسها بعنوان الفجر الصادق « تكرمت علينا الحكومة بإعطاء محلات متروكة اتخذنا منها مدرستين للذكور بعد تعمير إحداهما تعميراً متقناً وكانت مشعثة... فاجتمع فيهما من التلاميذ ما يفوق عن أربعمائة...»
واحتفلت جمعية المقاصد في الثالث والعشرين من شهر ذي الحجة سنة 1296هـ/ سنة 1879 م بافتتاح المدرسة التي سميت «المدرسة الأولى للذكور «في البازركان بحضور والي سورية مدحت باشا كما حضرة نائب بيروت (القاضي) عبد الله جمال الدين ومفتي المدينة الشيخ محمد حسن المفتي الطرابلسي الأشرفي ومجموعة من أبناء بيروت وبحضور متصرف بيروت رائف افندي الذي كانت له اليد الطولى في تأسيس الجمعية ودعم نشاطاتها ولاسيما المدرسة (المكتب) المنشأة بهمته كما قال الشيخ قاسم أبو الحسن الكستي:
ان هذا المكان منشأ خيرٍ
يدرك الطالبون فيه المعارف
تعتري داخليه رأفة قلبٍ
حيث أنشأؤه بهمة رائف
وقال فيه الكستي:
هذا مكان من أتاه قاصداً
يلقى به الكرامة المرضيه
بنيّة الخير تولّت أمره
جمعية المقاصد الخيريه
وتشير محاضر الجمعية الى أن ملاك المدرسة كان مؤلفاً من بواب وثلاثة معلمين معلم للقراءة البسيطة ومعلم للخط والحساب ومعلم للقرآن الشريف والعبادات . وضمت المدرسة مائة تلميذ وعلى أن يكون عمر وأحدهم بين 7و15 سنة وان يكون عمر المعلم فوق العشرين.
ويشار في محاضر الجمعية وما تواتر من أخبار المدرسة المشار إليها أنها انشئت في سوق البازركان في الموقع المعروف «بالمحكمة العتيقة» الى الشرق من جامع الأمير منذر أي جامع النوفرة لوجود نوفرة ماء في فنائه الذس عرف أيضاً بالجامع المعلق (لارتفاعه عن سطح الأرض) وكان يصعد الى المدخل الشرقي للجامع بعدة درجات وذلك قبل شق شارع فخر الدين (المصارف) وفتح الباب الغربي للجامع.
يذكر أن المجلس الشرعي كان قديماً يعقد جلساته في أحد الأبنية الموقوفة الواقعة الى الشرق من جامع الأمير منذر وفي محلة ضمت عقارات وقفية منها ما يعود لجامع شمس الدين الشهيد (او الجامع الجديد) ومنها العقار الذي تولته جمعية المقاصد. وكانت اجتماعات مجلس أمنائها الأول عند تأسيسها تعقد فيه. يذكر ان الشيخ عمر البربير أعلن سنة 1875م إنشاء المدرسة القادرية في «محل المحكمة القديمة تجاه جامع النوفرة» في سوق البازركان.
سوق البازركان
نشير الى أن محلة سوق البازركان كانت عامرة بالمؤسسات الدينية والتجارية والتربوية. والبازركان تعني تاجر وكانت هذه السوق قبل سنة 1264 هـ/1848م تعرف بسوق العقادين كما جاء في وثيقة مؤرخة في التاسع عشر من شهر ربيع الأول سنة 1264 هـ أن عبد الله البربير باع بوكالته عن والدته حسنا سعيد نجا الى عبد الرحمن وعبد الله الطيارة وإبراهيم سربيه حصة بدكان سفلي دار حسن الكوش البحري «الكائنة بسوق العقادين القديم الشهير الآن بسوق البازركان». والعقاد هو من يحترف في خيطان الحرير والصوف والقطن والشرائط والسجق للبرادي والأزرار والشلل والزنانير الخ.
وضمت محلة سوق البازركان من المؤسسات الدينية زاوية الشيخ علي القصار وجامع الأمير منذر وجامع شمس الدين وزاوية المجذوب ( قرب مبنى البرلمان الحالي) التي أنشأت جمعية المقاصد بجوارها اول مدرسة للبنات.ومن المؤسسات التجارية خان التوتة أو خان الحرير الذي يضم ميزان الحرير والذي شغل فيه الشيخ محمد الحوت دكاناً توضع فيها شلل الحرير الطبيعي للمزارعين وأثمان بضاعتهم أيضاً.ومن مؤسسات السوق أيضاً خان المزيكا (الموسيقى) وبقربه خان طاسو وقيسارية الأمير يونس التي بنى عبد الفتاح آغا حمادة على ظهرها سنة 1242هـ / 1826م قصراً أرّخه مفتي بيروت الشيخ أحمد الأغر.
ويستدل على رواج سوق البازركان من تزاحم الأقدام وكثرة المقاهي فيها فبموجب الوثيقة المؤرخة في الثالث من شهر شوال سنة 1262 هـ /1846م تملك مصطفى آغا القباني (كادك (استثمار) حمامين وعشر قهاوي بموجب براءة شريفة من السلطان عبد المجيد وكانت تسعة مقاه منها باطن بيروت وواحدة خارجها. ومما كان داخل المدينة قهوة ميزان الحرير أسفل خان الحرير وقهوة النوفرة جانب جامع الأمير منذر وسفلي دار بني القصار وقهوة المحكمة القديمة تجاه زاوية القصار وقهوة العسيس (الحرس) في ساحة الخبز وضمت المحلة داراً كانت معروفة بمنزول قاسم درويش وقفت في الثامن من شهر شعبان سنة 1273 هـ /1857م من خديجه أحمد الغول وكان موقعها في محلة بني الحاج شاهين قرب «القيسارية العتيقة بالبازركان تجاه قهوة خبيني» وفي قهوة خبيني تنكر فيها إبراهيم باشا ليلاً أثناء احتلاله لبيروت لترصد أحوال المدينة من مجالسة الحاج علي حصرم.
اشتهر في محلة البازركان زاروب المبروم نسبة الى عمود في وسط الزاروب يشبه أحد الأعمدة الرومانية التي اكتشفت فيما بعد في سوق البازركان ونقلت حيث ثبتت تجاه المتحف.
يذكر ان بعض دكاكين سوق البازركان المجاورة لجامع الامير منذر كانت مرتفعة عن مستوى الساحة وكانت ابوابها من درفتين واحدة ترفع الى الأعلى وتثبت من طرفيها والثانية تنزل الى الأسفل على الجدار ويصعد البائع كي يجلس في الدكان. وقد ادركنا قبل الحرب الاهلية التي قضت على السوق دكاكين بيع لوازم الخياطين وأنقاض معمل الزجاج المعروف قديماً بمعمل يموت.
مبنى البازركان
وبالعودة الى مبنى البازركان المجدد مؤخراً والذي حلّ محل المبنى القديم الذي شغلته مدرسة الذكور الأولى عند تأسيسها نقول ان هذه المدرسة أو المكتب الابتدائي والمجاني قام بدور كبير في تعليم مئات الأولاد مبادىء العلوم الدينية والمدنية والحساب وبالإضافة الى ما ذكرناه عن العادة السنوية بالاحتفال بتوزيع الجوائز على تلامذته سنة 1899م فقد ذكرت ثمرات الفنون في الخامس والعشرين من شهر تموز 1898م أنه احتفل بعد صلاة الجمعة بتوزيع الجوائز على تلامذة المكتب الابتدائي الثالث الكائن في سوق البازركان.
كما احتفل في اليوم السابق له بتوزيع الجوائز على تلامذة المكتب الثاني الكائن في السنطية بحضور العلماء والوجهاء فألقيت خطب بالعربية والتركية ومثل بعض تلامذة المكتب الثاني المذكور محاورة أدبية كتبهــــــا الشيخ محيي الدين الخياط المعلم في المكتب المشار اليه.
ولا يسعنا ختاماً إلا تهنئة جمعية المقاصد ورئيس مجلس أمنائها على إنجاز تجديد مبنى البازركان تجديداً للثقة بالمقاصد ومجلس أمنائها ومعلميها وطلابها وحق لنا ان نردد ان للمقاصد ربّ يحميها.
*محامٍ ومؤرخ