بيروت - لبنان

اخر الأخبار

6 آذار 2021 12:00ص أسواق بيروتية (8): سوق الأمير قاسم في «محلة العقّال» باطن بيروت القديمة

وثيقة العقّال وثيقة العقّال
حجم الخط
لم تكن هناك لجان لتسمية الشوارع والمحلات والأحياء بل كانت الأسماء تجري على ألسنة الناس طبقا لما اشتهر به المكان أو ارتبط به من جماعة أو وجيه أو أمير أو فقيه أو سوق أو مركز ديني. وقد اكتشفنا من مراجعة مئات الوثائق وثيقة تنشر لأول مرة تبيّن انه كانت في بيروت القديمة محلة بإسم محلة العقّال وفيها سوق منسوبة للأمير قاسم جرت مبايعة كادك دكان فيها في الثاني من شهر صفر الخير سنة 1267هـ/ 1850م، وجاء في الوثيقة «ان عبد القادر ابن المرحوم عمر الفاخوري باع ما هو له وجار في ملكه ومتصل إليه بطريق الشراء الشرعي من الحاج مصطفى ابن الحاج محمد المنير الدمشقي بموجب حجّة مخلّدة في يده المتصل إليه ذلك بطريق الكادك الشرعي بموجب الشرطنامة المخلدة بيده من والي ايالة صيدا أسبق سعادة الحاج سليمان باشا المفخّم الى حافظ هذا الصك الشرعي الحاج بكري العريس وقبل له الشراء أحمد قاسم عبلا والمبيع هو جميع كادك الدكان الكائنة في سوق الأمير قاسم بمحلة العقال باطن المدينة والثمن عن ذلك ألف وخمسمائة قرش وسلّمه الشرطنامة والحجة الشرعية...» فاقتضى الأمر تفسير أمور ثلاثة هي: الكادك وسوق الأمير قاسم ومحلة العقّال.

كادك/ كاديك/ جدك الدكانين

كادك أو كدك أو جدك تركية وأصل اللفظ فارسي معناه الرفوف المركبة في الحانوت أو الاغلاق على وجه القرار (ابن عابدين) ويطلق وفقاً لكتاب «مرشد الحيوان» على الأعيان المملوكة للمستأجر المتصلة بالحانوت على وجه القرار كالبناء والآلات. وتعني أيضاً مالا مرتبا على عقار يعود للدولة من جانب الذين يشغلونه أو يستثمرونه. وأصله ان الوالي سليمان باشا طلب سنة 1223هـ/ 1808م من الباب العالي ارجاع الأملاك التي كان قد ضبطها أحمد باشا الجزار الى أصحابها لقاء تعهد بدفع ما يتوجب عليها من ماله الخاص. فلم تقبل الدولة وأمرت بإبقاء كل شيء على حاله والنظر بصيانة المحلات. ووجد الوالي ان وجود المستأجرين في تلك المحلات سيؤدّي الى خرابها فإذا وقع شباك فلن يصلحه المستأجر ويلحقه الشباك الثاني وهكذا الى ان يقع السطح ويخرب المكان والبعض يبيع حجارته. ورأى الباشا ان الأمور إذا بقيت متروكة تخرب وتضيع فلا أصحابها اهتموا بها ولا الميري انتفع بها وعند ذلك تظن الدولة ان الباشا سعى عمدا بخرابها لعدم قبول التماسه السابق فيصير متهما بالتقصير ويعاقب.

وبعد المذاكرة أقرّ الرأي على أن تعطى المحلات للسكان على سبيل الكادك وبشروط بأن يدفع المستأجر الأجرة المرتبة عليه سنويا دفعة واحدة. وأن يدفع إضافة لذلك كل سنة أجرة مترتبة عليه. وان يتعهد بعمار المحل وترميمه وصيانته الى ما شاء الله. وإذا لم يلتزم بما قرره الحاكم من نفقات صيانة يبطل كادكه ويخلي المحل ولا يحق له طلب ما دفعه. وبالمقابل يبقى الكادك وما أنشأ عليه في يده ويد ذريته الى ما شاء الله يتصرف به تصرف المالك بملكه لا ينازعه منازع ولا معارض ولا تفرض عليه أية زيادة. وقد استحسنوا هذا الرأي وطلبوا فتوى من مفتي عكا الشيخ محمد أبو الهدى التاجي فأفتى بانه مطابق للشرع. وعرضوا الأمر على الباب العالي فاستحسنه وصدر الإذن بإجرائه، فالذي أراد محلا أخذه وتحرر بيده سند الكادك من سليمان باشا (كما جاء في الوثيقة) أو من خلفه عبد الله باشا تحت امضائه وختمه وصار بيده على سبيل التملّك ما دام يراعي الشروط المذكورة في السند.

يذكر ان بعض من كتب في تاريخ بيروت ذكر الأحكار المترتبة لجامع الأمير منذر، وكان منها حكر على بيت (الكاديك) فقرأها الكاتب (كاويك) وفسّر الماء بعد الجهد بالماء فاعتبر ان الكاويك شهرة لأسرة بيروتية ضمّها الى فهرس الاعلام.

خانات وقيساريات وقصور الأمراء والشيوخ

عند وفاة الأمير أحمد المعني تولّى الإمارة الأمير حيدر الشهابي ابن بنت الأمير أحمد فانتقلت الامارة الى الشهابيين وأصبحت بيروت تابعة لهم. وتوارثوا السلطة فيها. وقد توطنوا في بيروت بظروف أعدّ لها الأمير ملحم. فقد كان ياسين بك التركي متسلماً عليها وكانت بينه وبين الأمير ملحم مشاحنة، فأمر هذا الأخير الشيخ شاهين تلحوق بأن «يمخرق» في ضواحي المدينة وأطرافها كالمصيطبة والاشرفية ورأس بيروت، فقام الشيخ شاهين بعدة غارات عجز ياسين بك عن احلال السلام وردّ الغارات وكتب الى والي الشام عثمان باشا يخبره بما يقوم به اتباع الأمير ملحم، فكتب عثمان باشا الى الأمير عارضاً عليه تسلّم بيروت فقبلها مسروراً وأزاح ياسين بك عنها.

نسب للأمير ملحم انه بنى خان الملاحة الذي عُرف فيما بعد بالخان العتيق وان الأمير مال في آخر أيامه الى قراءة الكتب الفقهية وفي سنة 1753م دخلت شوكة صبير بيده وتعسّر خروجها وعجز الأطباء عن شفائه فمرض وفوّض الأمور الى شقيقيه منصور وأحمد، وتوفي ودفن في مقبرة بجوار جامع الأمير منذر. وروي أن قراصنة اعتدوا على مركب للبيارتة، فهاج هؤلاء على الفرنج وضايقوا رهبان دير البادرية ونهبوا الدير، فقبض الأمير ملحم على اثنين من أهالي بيروت وشنقهما. ومن زوجات الأمير ملحم الست أم فاعور ابنة محمد أخي حاكم حاصبيا فلم يعش لهما سوى الأمير محمد ولما بلغ السابعة أتت به أمه الى بيروت وطهرته وصنعت له زينة وأفراحا كلّفت خمسة وعشرين ألف غرش.

وبعد فرض سيطرة الشهابيين على بيروت وتوطنهم فيها مع حلفائهم فمن غير المستبعد أن يقوم بعضهم بتجاوزات لم يكن باستطاعة أهل المدينة مقاومتها أو الاعتراض عليها أو انتقادها. كما ان الأمراء وحلفاءهم سيطروا على تجارة المدينة حتى ان الأمير حيدر، مؤرّخ تاريخ الجزار، قال بان أرباب الوظائف الإدارية والأمنية ودزار القلعة وكذلك المغاليق (جمع مغلق) أي المخازن والدكاكين كانت كلها موقوفة على موافقة الأمير ملحم وتحت أمره. كما ذكر ان الست ضيا ابنة الأمير حسن أبو اللمع زوجة الأمير ملحم تملّكت عدة جلول في تلة باب يعقوب قرب السراي الكبير.

ولإعطاء فكرة عن سيطرة الأمراء وحلفائهم على التجارة في بيروت وما يتبع ذلك من نفوذ وسطوة، نذكر بعض الانشاءات التي بنوها واستثمروها مدة طويلة فكان منها: خانات قديمة آل بعضها للميري منها خان الأمير منصور وخان الشيخ شاهين. وبنى سليمان أبو اللمع قيسارية البارود والأمير يونس قيسارية. والأمير سليمان الشهابي قيسارية. والأمير يوسف قيسارية الصاغة وقيسارية الأروام. وعبد السلام العماد قيسارية العطارين. أما الست خنسا ابنة الأمير فارس أبو اللمع، المكنّاة بأم دبوس لمزيد فراستها وعزّتها، فقد ذكر المطران يوسف المريض ان أم دبوس سكنت في مدرسة عينطورا المارونية وكان الداعي لذلك نفور بينها وبين زوجها الأمير أحمد شقيق الأمير ملحم واتخذت جد عائلة المطران كاهنا لأسرارها واتفق انه مرض مرضا عضالا فلقّبته أم دبوس بالمريض. وكانت قد انشأت القيسارية العتيقة والبرج المستدير بجانب السور الغربي الذي بنيت القشلة موضعه وفقا لداود كنعان.

يذكر ان التلاحقة هم من قبيلة بني عزام كانت مخيّمة في الجزيرة الفراتية ثم بارحوها مع الأمير معن الأيوبي الى الشام ثم ذهبوا الى حوران وانتقلوا منها الى وادي التيم ثم سنة 1144 الى بيروت ومنها الى الشويفات وكفرشيما وعيتات، واشتهر منهم الشيخ حسين بفصاحته والشيخ شاهين بكرمه وشجاعته، وقد تملّك هذا الأخير مساحات شاسعة في رأس بيروت كما بيّنا في محل آخر («اللواء» 24/8/2019). وبلغ من نفوذ الشيخ شاهين تلحوق ما ذكره الشيخ أحمد البربير في كتابه الشرح الجلي على بيتي الموصلي قال «إن الشيخ شاهين تلحوق كان إذا نزل من الجبل الى بيروت يكون معه من الأتباع نحو المائة (من الطبيعي أن يكونوا مسلحين) فرأيته يوماً عند الصباح يأتي إليه أتباعه يطلبون منه أن يعطيهم دراهم لأجل الفطور ويزدحمون عليه، فرأيت أحدهم أخذ منه ثم تأخّر قليلاً ثم طلب ثمن الفطور فأعطاه فتأخّر قليلاً ثم تقدّم فأعطاه الى المرة السابعة، فعندها مال إليه وقال له سراً: صارت هذه سابع مرّة، فأخذ منه في المرة السابعة ولم يعد». وعلّق البربير قائلاً:

ليس الغبيّ بسيدٍ في قومه

لكنّ سيدَ قومه المتغافلُ

سوق الأمير قاسم ابن الأمير ملحم

تزوج الأمير ملحم السّت أمّون ابنة الأمير نجم شهاب حاكم حاصبيا فولدت له يوسف وقاسم وسيد أحمد وحيدر. ولّى الصدر الأعظم الأمير قاسم على جبل لشوف وتوابعه وأصحبه والي صيدا الى بيروت فدخلها على حين غفلة واستولى عليها ثم عزل بعد ذلك. وقد أنشأ الأمير قاسم سوقا في محلة البازركان بجوار جامع الأمير منذر التنوخي عُرف باسمه تُذكر لأول مرة. توطن الأمير قاسم في حدث بيروت وهو والد الأمير بشير الشهابي الثاني ووصف بانه كان متمسّكاً بالدنيا محباً للمال. توفي سنة 1768م.

نشير الى ان الوثيقة المؤرخة في السادس والعشرين من شهر ربيع الثاني سنة 1260هـ تعود لمبايعة عمار من مربعين وايوان وجنينة كائنة في محلة الأمير قاسم في أرض جنينة المدخن تجاه المصبنة القديمة.

محلة العقّال وسط بيروت

محلة العقّال من محلات بيروت القديمة ولعلها تعود الى زمن حكم الأمراء التنوخيين وحلفائهم. والعقال هم طبقة رجال الدين عند الموحدين وان نسبة المحلة إليهم أمر طبيعي من ضمن النسيج الاجتماعي والروحي والعمراني والتجاري للمحلة الكائنة بجوار جامع الأمير منذر التنوخي في محلة البازركان والتي تضم زوايا وقيساريات وخانات وسوق الأمير قاسم. يُذكر ان الأمير منذر التنوخي بنى الجامع المعروف باسمه أو جامع النوفرة لوجود نوفرة في صحنه أو الجامع المعلق، فقد كان يصعد إليه بدرج من الجهة الشرقية قبل فتح الباب الغربي على شارع فخر الدبن أو أيضاً جامع القهوة لوجود القهوة الكبيرة بجواره. ويقول الشيخ طه الولي ان في منبر الجامع علامة تشير الى مذهب الأمير وهي كتابة منقوشة على الاسكفة الحجرية التي تعلو باب المنبر ونصّها «الله حق ما فيه شك» وانها من الرموز الروحية لدى الموحدون الدروز.



* مؤرخ