بيروت - لبنان

اخر الأخبار

28 أيار 2018 12:04ص أهمية إثبات رؤية الهلال بقرار قضائي

حجم الخط
جرت العادة أن تفتح المحكمة الشرعية أبوابها مساء التاسع والعشرين من شهر شعبان وتدعو من يشاهد هلال رمضان للحضور الى المحكمة وأداء شهادته. جاء في بيان صادر في 29 شعبان 1326 هـ / أيلول 1908 م « أن اليوم ختام شهر شعبان وهو 29 يوماً بحسب القاعدة الفلكية والهلال يولد الساعة الخامسة والدقيقة 21 زوالية تخميناً فإذا رؤي بعد غروب الشمس من هذا المساء تكون غرّة رمضان غداً السبت وهو الغالب وإلا فبعد غد الأحد،على أن من الواجب تحرّي الهلال الليلة وعلى من يراه أن يذهب الى الحاكم الشرعي ليؤدي شهادة الرؤية ومن رآه وتخلف فهو آثم.
وكانت الرؤية تتمّ من الأماكن العالية في بيروت أو الأماكن المشرفة على البحـــــــــــــر كرمل الزيدانية ورأس بيروت والأشرفية وشوران والمنارة. أما إثبات الرؤية فكان يتم في المحكمة الشرعية وبصورة منازعة قضائية بين مدعٍ ومدعى عليه يصار خلالها الى استماع الشهود الذين رأوا الهلال بعد سؤالهم عن كيفية رؤيته ومكانها وزمانها ووضعية واتجاه قرني الهلال ثم يصار الى تزكية الشهود أي التحقق من عدالتهم وحسن سيرتهم ويصدر بعد ذلك الحكم الشرعي بثبوت الرؤية فينظم الإعلام الشرعي ويرسل الى الوالي او المتصرف ومنه الى قومندان الموقع العسكري (القشلة) لإطلاق المدافع.وتعطينا الوثائق الشرعية نماذج عن الأصول المتبعة لإثبات أهلة أشهر شعبان ورمضــــــان وشوال وذي الحجة.وهذه الأصول القاضية باستصدار حكم قضائي لها دلالة حضارية كبيرة في النظم القضائية الإسلامية، فالحكـــــم الصــــادر بعد مخاصمة يتمتــــع بقوة تنفيذية وثبوتية تجعله بمنأى عن الطعن وتعطيه قوة ثبوتية أمام أية محكمة أخـــــــرى وهو ما نسمّيه اليوم قوة القضية المحكمة أو المحكوم بها بعكس القرار الصادر بصورة رجائية بدون منازعة.وتوضيحاً لذلك سنذكر في ما يأتي بعض تلك الوثائق لإعطاء فكرة للقارىء عن الأصول المذكورة.
دعوى المطالبة بثمن سكر شقف أبيض من مرسيليا والاستحقاق غرّة رمضان
 «في مجلس الشرع الشريف بمدينة بيروت حضر رفعتلو علي زين العابدين أفندي إبن المرحوم الشيخ عبد الرحمن أفندي إبن الشيخ عبد القادر النحاس البيروتي العثماني وادعى على الحاضر معه مكرمتلو الشيخ عبد الرحمن أفندي ابن الحاج محمد سليم بن عبد الله سلام البيروتي العثماني قائلاً بدعواه عليه أن لي بذمة هذا المدعى عليه مبلغ إثني عشر قرشاً ثمن رطلي سكر مرسيليا أبيض شقف شراها وتسلمها مني وأنا بعته إياها بيعاً باتاً مؤجلاً عليه الثمن المذكور الى غرة شهر رمضان المبارك من هذه السنة التي هي سنة احد وعشرين وثلاثمائة والف. وبما أن هذه الليلة التي هي ليلة الجمعة هي غرة شهر رمضان المذكور لرؤية هلاله فيها بعد غروب الشمس بنحو خمس دقائق وفي السماء علة فيكون قد حلّ الأجل المذكور فأطلب الحكم عليه بدفع المبلغ المذكور إثني عشر قرشاً لكونه ممتنعاً عن ذلك بدون حق. فسئل المدعى عليه عن ذلك أجاب بطوعه واختياره معترفاً بشرائه رطلي السكر المذكورين بالثمن المذكور مؤجلاً عليه الى غرة شهر رمضان هذه السنة المذكورة وأنكر أن تكون هذه الليلة التي هي ليلة الجمعة غرة شهر رمضان المذكور أو رؤي هلاله فيها كما ذكر وحلّ الأجل المذكور.
فطلب من المدعي الموما اليه البيان الشرعي لإثبات دعواه المحررة فاحضر بعد التسمية والحصر شكلاً من الأونباشي نشانجي طابور العاشر في البلوك العاشر بن محمد بن قاسم الأتاسي الحمصي واسماعيل الجاويش في الطابور المذكور بن عبد الله بن عادل الأرناؤطي والنفر ميرزا ابن الياس بن إبراهيم الألبستاني العثمانيين الموجودين في بيروت في قرة غول محلة الأشرفية وشهد كل واحد منهم بمفرده غب الاستشهاد الشرعي بوجه المدعى عليه المذكور بلفظ : « أشهد أنني قد رأيت في هذه الليلة التي هي ليلة الجمعة وأنا في مكان مرتفع في محلة الأشرفية هلال شهر رمضان هذه السنة التي هي سنة أحد وعشرين وثلاثمائة وألف في الأفق الغربي بعد غروب الشمس بنحو خمس دقائق مرتفعاً عن البحر مقدار رمح وفي السماء علة فتكون هذه الليلة التي هي ليلة الجمعة المذكورة غرة شهر رمضان المبارك المذكور. فغب تزكية الشاهدين المذكورين سراً بالورقة المستورة من رفعتلو محمد نصرت البكباشي في الطابور المذكور وفتوتلو ابراهيم اليوزباشي في القرة غول المذكور العثمانيين وعلناً بالمواجهة من مكرمتلو خير الدين أفندي إبن المرحوم الشيخ عبد الرحمن ابن الشيخ عبد القادر النحاس ومكرمتلو حسن ابن فضيلتلو الشيخ عبد الباسط مفتي بيروت والشيخ مصباح أفندي ابن الحاج أحمد شبقلو البيروتيين العثمانيين، فقبلت شهادتهم قبولاً شرعياً وحكم بموجب المبلغ المحرّر للمدعي الموما اليه لحلول الأجر المذكور حكماً وتعريفاً صحيحين شرعيين، وبالطلب والسؤال تحرر ما هو الواقع في غرة شهر رمضان المذكور للسنة المذكورة «.
إثبات هلال رمضان بشاهد واحد هو محمود رمضان
« معروض الداعي للدولة العلية العثمانية الأبدية، بناء على أنه لا يشترط في حقوق الله تعالى سبق الدعوى ولا لفظ الشهادة فقد حضر الى المجلس الشرعي بمدينة بيروت محمود بن محيي الدين ابن أحمد رمضان البيروتي من أحرار رجال المسلمين وشهد بطريق الشهادة الحسبية بأنه قد رأى في هذه الليلة التي هي ليلة الجمعة هلال شهر رمضان سنة ثمان وثلاثمائة وألف هجرية بعد غروب الشمس بنحو عشر دقائق من بعد الغروب من خارج البلدة بشط البحر والسماء كانت متغيمة بين خلل السحاب في وقت يدخل في السحاب وإذا كان بالسماء علة قبل في هلال رمضان خبر عدل واحد وان السماء كانت متغيمة وتحقق انه عدل ولذلك قبل إخباره وبناء عليه صار إعلام الكيفية من محكمة بيروت الشرعية لجانب معالي ملجأ الولاية، ليصير إعلان ذلك حسب المعتاد، تحريراً في ليلة الجمعة غرة شهر رمضان المبارك للسنة المذكــــورة «.
يذكر بأن الفقهاء فرقوا بين هلال رمضان وهلال شوال فقبلوا خبر الواحد العدل في الأول لآنه دخول في العبادة، وفرضوا شهادة إثنين عدلين في الثاني لأنه خروج منها.
رؤية الهلال متجهاً لجهة القبلة مرتفعاً مقدار ذراع عن سطح البحر :
جاء في وثيقة إثبات رؤية هلال رمضان سنة خمس وعشرين وثلاثمائة والف ان السادة أمين بن محمد بن محمد الغندور وعبد الغني بن إبراهيم بن عبد الله دندن واديب بن راغب بن عبد الرحمن اياس شهد كل منهم بما يلي « أشهد أنني رأيت رأي العين حال اليقظة هلال شهر رمضان هذه السنة أعني سنة خمس وعشرين وثلاثمائة والف في هذه الليلة التي هي ليلة الثلاثاء بعد غروب الشمس بعشر دقائق في الأفق الغربي من مطالع الأهلة مرتفعاً عن سطح البحر مقدار ذراع متجهاً لجهة القبلة وفي السماء علة وأنا في محلة شوران من رأس بيروت خارج مدينة بيروت». ينكر 
رؤية هلال شعبان من قهوة الحاج داود
فقد ادعى الحاج محمد عبد القادر فاخوري بأن له بذمة المدعى عليه الشيخ محمد الكستي نصف ريال مجيدي ثمن كتاب الألفاظ الكتابية مؤجل الى 27 شعبان وقد حل الأجل وينكر المدعى عليه غرة الشهر. فيحضر للشهادة الحاج داوود خطاب وحسن قريطم فيشهدان أنهما شاهدا هلال شعبان بعد الغروب بنحو 10 دقائق من قهوة أحدهما الحاج داود فيصدر الحكم بإثبات هلال شعبان. وفي دعوى بين إبراهيم المجذوب ومحيي أمين ناصر للمطالبة بنصف ريال ثمن ديوان أبي العتاهية المؤجل الى 30 شعبان ثبت بالشهادة. 
أما ما ذكرناه حول سؤال الشاهد عن كيفية رؤيته لوضع الهلال فنقول ان القوانين الطبيعية الفلكية تحدد وضع (قرني) نهايتي الهلال، فلا يكونان على الدوام في اتجاه معين في جميع مناطق الكرة الأرضية، فإن له في كل منطقة وضعاً خاصاً يختلف حسب خطوط الطول، ففي المنطقة الشمالية المعتدلة يظهر الهلال بعد غروب الشمس ويكون اتجاه نهايتيه على الدوام الى أعلى والى اليسار وتدور الشمس في هذه المنطقة الى الجنوب، فإذا دنت من غرب الأفق نزلت بميل من اليسار الى اليمين، ويتبع الهلال الشمس فيتخذ مجراها تقريباً، وبما ان نهايتيه تتجهان بعيداً عنها على الدوام، فيكون وضعهما الى أعلى والى اليسار. وأما هلال آخر الشهر فيكون ظهوره في آخر الليل ويكون وضعه عكس وضع هلال أول الشهر الذي يظهر في منطقته.
القبض على المفطرين وحبسهم 
كانت السلطات تتخذ التدابير والتنبيهات الضرورية. يذكر ان فؤاد باشا الذي اشتهر بتسوية ذيول حوادث سنة 1860م اصدر عندما كان في بيروت في شعبان 1277هـ/ آذار 1861م إعلاناً من طرف الحكومة علق على ابواب المدينة وفي ساحاتها الرئيسة وعلى ابواب المعابد جاء فيه «حيث انه في شهر رمضان تفتح الاسواق بالليل، فيلزم ان جميع الاهالي يكون جولانهم بالأدب والاحتشام من دون ادنى منازعات من الواحد مع الآخر لا بالليل ولا بالنهار وكل احد يكون في شغله وعمله ومعاطاة اسباب معيشته متجنباً كل حركة موجبة للخصام والنزاع وكل من يتجاسر على ادنى حركة خارجة عن حدود الادب بحق كائن من كان يجرى بحقه التأديب اللازم «.كما اذاع والي صيدا قبولي محمد باشا – وكانت بيروت تابعة لها – بياناً سنة 1863م علق على ابواب المدينة ونادى به المنادي في الاسواق والساحات والطرقات وكان موجهاً الى قاضي المدينة وجاء فيه « يجب بناء على حلول شهر الصيام المقرون بالمغفرة على كافة المسلمين اداء صلوات الاوقات الخمسة في الجوامع الشريفة مع الجماعة وغاية التحاشي للحالات المغايرة للآداب الاسلامية وعدم التصدي للنزاع المتنوع والإصرار بموجب شعار الاسلامية على الإطاعة والعبادة التي هي من فرائض كافة الموحدين...». وجاء في التعليمات التي اذيعت سنة 1900م ووردت من نظارة الداخلية « بمناسبة شهر رمضان صدرت الارادة السنية بان يكلف جميع المؤمنين والمؤمنات على الطاعة والعبادات وان يتجنبوا الملاهي وان يحظر على النساء التجول في الازقة على هيئة تنافي الشعارات الملية وان يتحاشى كل انسان ما يخالف الآداب الاسلامية وان تمنع الالعاب التي تخالف الدين وتأباها المروءة والآداب «.
وقد جرت العادة على القبض على المفطرين في شهر رمضان المنتهكين حرمته وإيداعهم السجن. وقد نفذ ذلك فعلاً سنة 1882م اذ قبضت الضابطة على جماعة المفطرين. كما اصدر الوالي سنة 1890م أمراً الى الضابطة والبوليس بالقبض على من يستعمل الخمرة في شهر رمضان وقبض على اثنين منهم. وجاء في تعليمات نظارة الداخلية لسنة 1910م « انه بناء على ما ورد من المشيخة الاسلامية فان من ينقضون صيامهم علناً في شهر رمضان ويخلون بالآداب العامة ويحتقرون الصائمين ويخالفون الشريعة فإنهم يعاقبون على ذلك اشد العقاب وهو حبس المفطر». فما أبعد الليلة عن البارحة. 
 * محامٍ ومؤرخ