بيروت - لبنان

اخر الأخبار

16 كانون الثاني 2021 12:00ص أوراق بيروتية (1): حمّال الربعة الشريفة في الجامع « الكبير» العمري

حجم الخط
«أوراق بيروتية» عنوان اخترناه لسلسة من المقالات تتناول تاريخ بيروت الاجتماعي والجغرافي والتاريخي والديمغرافي على أن يرفق بكل مقال وثيقة مرتبطة بالموضوع.

والوثائق هي أصول إذا ضاعت ضاع التاريخ معها كما قال الدكتور أسد رستم في كتابه «مصطلح التاريخ» الذي وضعه قياسا على قواعد مصطلح الحديث، والذي كتب في مقدمة الطبعة الأولى من الكتاب بانه استعان بأمين الفتوى المحدّث الشيخ محمد العربي العزوزي إلا ان إشارته لهذه الاستعانة اختفت من الطبعات اللاحقة.

ومن يجول في وثائق بيروت يجدها تناولت البشر والحجر ففيها أودية وتلالاً وأنهارا وسواقي وموانئ وخلجانا ومغاور وخنادق وزقاقات وكنائس ومساجد جامعة وفيها مدارس وزوايا، كما تجد فيها شعرا وفقها وأوقافا وفتاوى وذكرا لمهن وحرف ومعاملات بيع وشراء ورهن الخ...

وقد خصصنا الورقة الأولى لما له علاقة بالقرآن الكريم وربعاته الشريفة وحمّاليها في المساجد ولا سيما في الجامع الكبير العمري في بيروت.

حمّال الربعة

ورد ذكر حمّال الربعة في عدة وثائق شرعية منها ما وردت الإشارة إليه في جدول أوقاف زاوية الشهداء لسنة 1259هـ/ 1843م كمحل سكن محمد ابن الحاج وهبة «حمّال الربعة». ومنها وثيقة مؤرّخة في شهر محرم الحرام سنة 1294هـ/ 1877م اشترى بموجبها الحاج حسن ابن السيد مصطفى جمعة حمّال الربعة دارا في محلة الباشورة من عمر آغا ابن أمين رمضان. ومنها وثيقة مرفقة صورتها بهذه الورقة والمؤرّخة في السادس من شهر ذي الحجة الحرام سنة 1290هـ/ 1874م وتتضمن شراء خديجة بنت الحاج مصطفى زنتوت زوجة إبراهيم عمر دعبول من نعوم وقسطنطين وأيوب خليل ثابت بستاناً في محلة رأس النبع المشتمل على أغراس متنوّعة وخمسة بيوت (غرف) وبئر ماء نابع وأربعة أماكن ورواق مُعدّ لعمل القهوة بمبلغ 22500 قرش. وقد شهد عدة شهود على هذه المبايعة ومنهم «السيد محمد ابن الحاج حسن حمّال الربعة».

والربعة من ربّع الشيء صيّره أربعة أجزاء. والربعة هي جونة العطار وهو إناء مربع الشكل يُعدّ فيه الطيب ويحرز، أطلقت أيام المماليك على أجزاء القرآن الكريم. قال الصاغاني الربعة بمعنى صندوق فيه أجزاء المصحف الكريم.

ذكر كتاب «جواهر العقود ومعين القضاة والشهود» للعلّامة شمس الدين محمد بن أحمد المنهاجي الاسيوطي في جزئه الأول (ط 1955) وثيقة وقف بموجبها الواقف ربعتين شريفتين كبيرتين مشتملة كل واحدة منهما على كتابة بقلم خفيف الثلث أو المحقق وتذهيب وكل ربعة ثلاثون جزءاً وكل واحدة ضمن صندوق جلد منقوش. وجاء في وثيقة أخرى ان واقف مدرسة على مذهب الإمام الشافعي شرط أن يكون للمدرسة نقيب للفقهاء يحضر أيام الدروس ويفرّق الربعة الشريفة على الفقهاء ويجمعها ويرفعها في خزانتها والدعاء للواقف بعد القراءة..

يذكر محمد محمد أمين في كتابه «الأوقاف والحياة الاجتماعية في مصر (1250-1517)» انه ألحق في كل مدرسة موقوفة وفي المساجد الجامعة والزوايا «خزانة كتب» أشرف عليها من أطلق عليه اسم خازن الكتب أو شاهد خزانة الكتب أو خازن الكتب والربعات الشريفة واشترط فيه أن يكون ثقة أمينا يقظا عاملا عالما بخدمة الكتب عارفا بترتيبها.

وأوضح الكتاب طريقة تدريس الفقه «بأن يجلس المدرّس والطلبة حوله ويقرأون ما تيسّر لهم قراءته من القرآن العظيم من ربعة شريفة يطاف عليهم بأجزائها ويدعون عقب ذلك للواقف ولذريته ولجميع المسلمين». وكان الشيخ عبد الوهاب السبكي ذكر في كتابه «معيد النعم ومبيد النقم» عدة أمثال منها ان من أقبح ما يرتكبه فقهاء المدرسة تحدّث بعضهم مع بعض أثناء قراءة الجزء من الربعة وان على قارئ العشر أن يقدّم العشر قبل الدرس وعقيب فراغ الربعة إذا كان الدرس فيه ربعة تدور كما هو الغالب.

أخبار ابن طولون الدمشقي

ويخبرنا ابن طولون الدمشقي في كتابه «مفاكهة الخلان بحوادث الزمان» بعض مناسبات قراءة الربعات منها «إذا استهلّ رمضان اجتمع الفقهاء والقضاة والمشايخ والربعات الشريفة وقرىء القرآن وأديرت الربعات... ومنها ان اجتمع في الجامع الأموي عقب صلاة الجمعة القضاة والجمع الغفير وقرأوا ربعات وختموها وأهدوها في صحائف السلطان... ومنها خروج النائب والقضاة والمشايخ بالأعلام والربعات الى سطح المزة لقطع الوباء وقرأوا في الربعات والصالحون يذكرون الله تعالى. كما قرأوا بعد دفن نائب بورصة عنده الربعات ثلاث ليالٍ.

يظهر من وثائق بيروت ان أجزاء الربعة الشريفة كانت محفوظة في خزانة كتب الجامع الكبير العمري في بيروت (كان هذا الجامع كنيسة بناها الصليبيون على اسم يوحنا المعمدان وفي مقصورته كفّه اليسرى وتحوّل بعد فتح بيروت على يد المماليك سنة 1291م الى جامع بإسم جامع النبي يحيى أو جامع فتوح الإسلام واشتهر لدى البيارتة بالجامع الكبير تمييزا له عن الجامع العمري الصغير أو جامع البحر عند الدباغة ووصف بالعمري نسبة للخليفة الراتب عمر بن الخطاب الذي سمّي جامع الفتح الأول على اسمه). ويفترض أن تكون هذه الخزانة التي كان موضعها في غرفة الشعرات النبوية الشريفة قد ضمّت الكثير من الكتب والمخطوطات والأجزاء الشريفة ولا ندري مصيرها.

وكان يتولّى أحد العاملين في الجامع توزيع الربعات على المصلين ثم جمعها وحفظها، وقد تأكد ذلك مما جاء في المجلس السابع من المجالس السنية بالوعظ والتفسير التي كان يلقيها المفتي الشيخ عبد الباسط الفاخوري سنة 1291هـ/ 1875م في شهر رمضان المبارك، فقد قال في المجلس المذكور «ومن البدع ما أحدثوه من التصفيق حال الخطبة أو قبلها وما اعتادوه من تفرقة أجزاء الربعة الشريفة حين اجتماع الناس لصلاة الجمعة فإذا كان عند الاذان قام الذي يفرّقها ليجمع الأجزاء فيتخطّى رقاب الناس بسبب أخذها...».

وتبيّن الوثائق علاقة النسب بين عائلات الربعة ووهبة وجمعة، ويبدو انه عند إحصاء السكان كانت مهمة حمّال الربعات قد زالت فتمّ قيد الشهرة ربعة ووهبة وجمعة متفرقة.

* مؤرخ