تفيد الوثائق ان البيارتة استغلوا تضاريس ساحلهم وما وجدوا فيه من خلجان ومرافئ لتجارتهم ولنزهاتهم وعانوا في الوقت نفسه من استغلال القراصنة والمعتدين لكثرة المرافئ التي مكّنتهم من انزال عساكرهم ومحاولات احتلال المدينة واخضاعها وسلب أهاليها أموالهم ومقتنياتهم.
كانت المؤسسات التجارية والإنسانية تتجمع في الجهة الغربية من المدينة. فكانت ميناء البصل في محلة الكرنتينا القديمة داخل بيروت. وكانت ميناء القمح أيضا داخل بيروت. وخصّ البيارتة بعض الثغور لبضائع للأرز عند طريق الميناء وللخشب عند المجيدية. وموضوع الوثيقة المؤرخة في التاسع والعشرين من شهر رمضان المبارك سنة 1286هـ/ 1870م مبايعة قطعة أرض كائنة في «محلة المسلخ القديم» قريبا من مقبرة السنطية يحدّها شمالا مقهى الحاج داود خطاب. وتفيد الوثيقة المؤرخة في الثاني والعشرين من شهر رجب الفرد سنة 1307هـ/ 1890م ان من جملة ما تركه مدحت باشا والي سورية الشهير قطعة الأرض المعروفة «بأرض المسلخ» يحدّها غربا مقهى الحاج داود خطاب. يذكر ان المحطب ومستودع الفحم والكازخانة كانت أيضا غرب المدينة.
وقد لفت جمال الساحل الغربي لبيروت من خليج القديس جاورجيوس كميناء الحسن والزيتونة والمجيدية والسنطية نظر المسؤولين من الولاة والمتصرفين ورؤساء البلدية الى أهمية استثماره تجاريا وسياحيا وعقاريا. وشجّع إنشاء المحجر الصحي (الكرنتينة) في الساحل الشرقي زمن احتلال إبراهيم باشا لبيروت وبمساعدة من قبل القناصل الأجانب وعلى رأسهم هنري غيز قنصل فرنسا في بيروت على وضع الخطط الرامية لنقل تلك المؤسسات الى الشاطئ الشرقي لبيروت من موقع المرفأ الحالي الى نهر بيروت مروراً بمحلات معروفة كالرميل والرميلة والمدور والخضر ومحلات غير مشهورة كالميماس والقبيبات والمحلة المعروفة «بميناء العقارب».
محلة الكرنتينة في ميناء العقارب
في كانون الثاني سنة 1319 (مالية) رأى المجلس البلدي برئاسة عبد الرحمن باشا بيضون ان تكاثر الأبنية في محلة ميناء الحسن لم يعد يوافق وضع وخزن البترول في مخازن تلك المحلة وتقرر إنشاء مخازن في الجهة الشرقية من البلدة مما يلي الكرنتينة قرب مصب نهر بيروت. ووقع الاختيار على أرض خاصة موسى فريج والخواجه قماطي في محلة ميناء العقارب وألّف المجلس لجنة لاقتراح ما يلزم لتنفيذ الأمر.
وكان المجلس البلدي لبيروت برئاسة فخري بك ابن محمود نامي بك أول من بدأ بتنظيم المدينة فاتخذ الإجراءات اللازمة من أجل نظافة البيئة. ووجد ان العظام والخرق البالية توضع في المخازن والدكاكين داخل البلدة، فقرر في السادس عشر من شهر كانون الثاني سنة 1294(مالية)/ شباط 1879م تعيين محل لذلك كائن على شاطئ البحر قرب السلخانة المعروف بميناء العقارب الممتد، الميناء المذكور، شرقا حتى مصب نهر بيروت. وأعطت البلدية مهلة سنة من تاريخ القرار لأجل إنشاء الأبنية والمخازن اللازمة لوضع تلك الأصناف التي يتطلّبها تنفيذ القرار باعتبار ان الجهة المحددة لنقل العظام والخرق إليها كانت خالية من المحلات, وسمح المجلس خلال تلك السنة لأصحاب العظام والخرق (الشراطيط) ابقاءها في محلاتها وشحنها وتفريغها من الأساكل الكائنة داخل المدينة وإذا ظهر من تلك العظام النتنة والشراطيط القذرة روائح كريهة تضرّ بالصحة العمومية فيجبر أصحابها على نقلها بالحال الى محل منفرد خارج البلد. وقرر المجلس ان تخصيص ميناء العقارب وما جاوزها من المحلات لوضع هذه الأصناف لمدة عشر سنين من نهاية السنة المحددة.
يبدو أن إنشاء المحجر الصحي (الكرنتينة) في موضعه الحالي ونقل المسلخ ووضع العظام والخرق بقربه أدّيا الى تكاثر العقارب في تلك المحلة. فقد كان دخول الأجانب القادمين الى البلدة يمرُّ بالمحجر الصحي. وذكر في حينه بان أحوال الكرنتينة كانت تعيسة لطمع مأموريها وشراسة أخلاق طبيبها. فإذا تظلّم له أحد قال له: لماذا أتيت الى هنا؟ من الذي أجبرك على المجيء؟ لِم لم تبقَ في بلدك؟ وإذا أحس أحدهم بمغص أعطاه دواء كان قاضيا بإعدامه. وكان الِمكلفون ببيع المأكولات لا يراعون حرمة وكأنما بعث الله إليهم بالمهاجرين لسلبهم أموالهم. ومما زاد في الطين بلّة وفي الطنبور نغمة انه كان يتم دفن الموتى وراء الأكواخ (العشش) مساكن الناس وحرقهم بثيابهم وأمتعتهم ولكثرة العقارب داخل العشش لم يكن يمر يوم إلا ويسمع ان العقرب لسعت هذا بإصبعه وذاك بكفه وذلك برجله والآخر بفخذه.
وتظلّم أحد المهاجرين القادمين من الإسكندرية الى طبيب الكرنتينة رداءة الموضع وان له ستة أولاد صغار لا يستطيعون تحمّل برد الليل وحرّ النهار فضلا عما (يغازلهم) في الليل من العقارب وغيرها من الهوام.
تأريخ قرارات المجلس البلدي بالسنة المالية
ذكرنا أعلاه بعد التاريخ كلمة مالية. وهي سنة مالية بدأ استعمالها سنة 1205 هجرية الموافق لأول شهر آذار سنة 1789 حسابا شرقياً. وكان ذلك في عهد السلطان سليم الثالث الذي أصدر أمره الى الدفتر دار مورالي عثمان بأن ينظم الشؤون المالية في الدولة اعتبارا من ذلك اليوم. فكان أول آذار هو بدء السنة المالية وحساب الأشهر فيها كحساب الأشهر في السنة الشرقية. وكان السبب الأصلي الخلل الحاصل بين مدفوعات الدولة اعتبارا من شهر كانون الثاني من كل سنة وبين وارداتها من مواسم المحاصيل والماشية التي تظهر في الربيع. وسمّيت السنة المالية السنة المارتية (آذار) علما ان الكثير من الدول الحديثة تنظم موازناتها اعتباراً من شهر نيسان.
العقارب والنبي نوح عليه السلام
توجد في البقاع بلدة بإسم الكرك تعرف بكرك نوح وفيها ضريح طويل منسوب للنبي نوح عليه السلام، ذكر النابلسي ان طوله أربعين ذراعاً وعلى جدران المقام لوحات بالعربية تتضمن مراسيم وقرارات صادرة من الولاة والسلاطين ذكرتها السيدة جانين سورديل-طومين في دراسة لها نشرتها سنة 1950, وفي قرية النبي شيت في البقاع ضريح طويل منسوب للنبي شيث, وضريح طويل للنبي يوشع في بلدة الضنية. ويقول الشيخ محمد الحوت في كتابه «اسنى المطالب» في أحاديث مختلفة المراتب ان قبر نوح ليس في الكرك.
وفي التراث الإسلامي روايات عديدة حول النبي نوح والعقرب. كتب مفتي بيروت الشيخ عبد اللطيف فتح الله رسالة بعنوان «مسك الأقلام في ان السودان من أولاد حام» قال فيها ان الحية والعقرب أتيا نوحا عليه السلام فقالتا: احملنا، فقال: إنكما سبب الضّر والبلاء فأنا لا أحملكما، وقالتا: احملنا فإنا نضمن لك إنّا لا نضر أحدا ذكرك، فمن قرأ حين خاف مضرتهما {سلام على نوح في العالمين. انّا كذلك نجزي المحسنين. انه من عبادنا المؤمنين} ما ضرّتاه.
وقد شاع هذا التقليد، ففي بعض مدن المغرب يصار في أول أحد من شهر نيسان الى إلصاق تميمة على أبواب الغرف وهي «سلام على نوح في العالمين وعلى محمد في المرسلين فمنّ الله علينا ووقانا عذاب السموم». وأذكر انني كثيرا ما سمعت عمتي ام مصطفى رحمها الله تردد قبل النوم «سلام على نوح. نوح عليه السلام. وتراب نوح مرشوش في هذا المكان».
وما رواه الشيخ أحمد البربير في كتابه «الشرح الجلي على بيتي الموصلي» أن شيخ الإمام البخاري الملقب بالرشك، كان من عظم لحيته أن مكثت العقرب فيها ثلاثة أيام. وفسر الدميري ذلك بأن الشيخ كان في مكان فيه عقارب وكانت مدة إقامته ثلاثة أيام فلما أحسّ بها بعد ذلك علم أنها موجودة من ذلك الوقت وأنها لم تسقط عند وضوئه للصلاة لاحتمال أنه كان لا يخللها لكبرها وان العقرب كانت صغيرة جداً.
* مؤرخ