الذين كتبوا عن مرفأ الغناس عبثوا بالتاريخ وبالجغرافيا نتيجة غياب التدقيق في الوقائع وانعدام التحقيق في المواقع ففرّقوا بين ما اجتمع وجمعوا بين ما تفرّق ونقل بعضهم عن بعض دون إعمال الرأي. ذلك ان علم مصطلح التاريخ كعلم مصطلح الحديث فالتاريخ ليس حكاية تروى قبل النوم بل هو بحث يتطلب التحليل والتدقيق والتمحيص ومعرفة العادات والتقاليد ودلالة الألفاظ على المعاني المتداولة لدى شعب من الشعوب في مدة محددة من الزمن. وينطلق علم الجغرافيا من التضاريس الجيولوجية والنواميس الطبيعية في بقعة أهلها أدرى بشعابها. وغالب كتب التاريخ بحاجة لإعادة النظر فيها. وهو موضوع هذا المقال الخاص بمرفأ الغناس.
*****
كيف تمَّ نقل أبو هدير ومرفأ الغناس من قرب المينا الى قرب مار إلياس الطينا؟
عند الساعة التاسعة من مساء 18 آذار 1826 وصل الى ساحل بيروت أحد عشر مركباً مدعوماً بأربع قطع بحرية من الأسطول اليوناني. أنزلت العساكر في الثالثة صباحاً عند برج أبي هدير وساروا نحو الميناء وتسلّقوا السور ودخلوا المدينة في الثالثة صباحاً ونهبوا المخازن ودخلوا البيوت وسلبوا ما فيها من الحلي حتى انهم اعملوا المدى لإحراز المجوهرات من معاصم النساء فتصدّت لهم حامية المدينة والمتطوعين من أهلها وأجبرتهم على الانسحاب للبرج المذكور قرب النهر أي الى محلة الغناس بعد أن خسروا ستة عشر قتيلاً وثلاثين جريحاً وعزيت التدابير المتخذة لرد الاعتداء وتنظيم المقاومة الى قاضي بيروت في حينه الشيخ أحمد الأغر.
كتب داود كنعان في مجلة «الجنان» في أيار وحزيران 1871 مقالات بعنوان «جواهر ياقوت في تاريخ بيروت» فذكر غارة عسكر الأروام (اليونان) سنة 1826م على بيروت وقال «قدم ليلا ثلاثة عشر مركبا من مراكب الأروام الى تجاه برج أبي هدير وخرج منها عسكر الى البر ونصبوا السلالم شرقي المدينة على السور وعند الصباح دخل بعضهم المدينة بالسلالم... وهجم الأهالي عليهم فانهزموا الى أصحابهم خارج السور... ثم أقلعت المراكب الى الغناس تجاه برج أبي هدير وخرج منها العسكر الى البر ونصبوا السلالم شرقي المدينة على السور... وعند الصباح دخل بعضهم المدينة... ثم أقلعت المراكب الى الغناس...».
قام إبراهيم كنعان ابن شقيق داود سنة 1963 بوضع كتاب بعنوان «بيروت في التاريخ» ضمّنه ما كتبه عمّه من مقالات وعلّق عليه بما يعرفه هو من بعض الأماكن الجغرافية ويبدو انه لم يكن يعرف الكثير. فعندما وصل الى كلمة الغناس علّق في الحاشية فائلاً «الغناس هو الشاطئ الجنوبي الغربي من بيروت الممتد من كنيسة مار إلياس الطينا الى محلة الجناح حيث تبدأ حدود محلة الأوزاعي».
وهذا التعليق الخاطئ من إبراهيم كنعان نقله عنه كل من كتب في تاريخ بيروت ابتداء من الشيخ طه الولي (كتاب الأوزاعي ص 191) مروراً بالصديق الدكتور حسان حلاق («أوقاف المسلمين في بيروت» ص 59 و«التاريخ الاجتماعي والاقتصادي والسياسي لبيروت» ص 112) والصديق الدكتور عصام شبارو («تاريخ بيروت» ص 147/148) وانتهاء بكتاب «الحنين الى بيروت» (1/272) ومن كتب بعدهم بالموضوع دون التدقيق أو التمحيص أو التحليل المطلوب ممن يكتب في التاريخ.
برج أبو هدير وبرج أبو حيدر
وكأن الكتبة استعانوا بمارد فانوس علاء الدين السحري فنقلوا مرفأ الغناس بما فيه من مياه ورمال ومنشآت من شرق بيروت الى غربها ووضعوه في ساحل الجناح كما نقلوا برج أبو هدير مع محلته ومزرعته من الساحل الشرقي ووضعوه في محلة المصيطبة معتبرين ان أبا هدير هو أبو حيدر فالتبس الأمر عليهم بين هدير وحيدر ومزجوا بين برجين بينهما برزخ يزيد عن ثلاثة كيلومترات؟
فأبو هدير هو أحد الذين رابطوا على ساحل بيروت دفاعاً عنها وكانت له محلة وبرجاً ومزرعة قرب منطقة الكرنتينا عرفت بإسمه وكان له ضريح كبير قرب القلعة بجوار بستان أبي صالح طبارة، وقد روى صديقنا المرحوم المحامي فيصل طبارة ان الأولاد كانوا يتسلقون الضريح ويرمون حجارة على بستان طبارة فأمر هذا الأخير بهدم الضريح إلا ان أبا صالح مرض بعد مدة ورأى فيما يراه النائم أبا هدير يقول: يعمرني بعمرو، فأعيد بناء الضريح. أما برج أبي حيدر فهو برج مدني منسوب لمن يحمل الاسم المذكور في المحلة المعروفة اليوم بإسمه.
ووجه الخطأ ان العدوان وقع سنة 1826م يوم كانت بيروت محصورة ضمن السور الذي يبدأ من ساحة رياض الصلح الى كنيسة مار جرجس المارونية ومنها الى المرفأ ومنه الى جامع المجيدية فساحة رياض الصلح. فإذا طبّقنا قول إبراهيم كنعان ومن نقل عنه وجدنا أن العساكر نزلوا في شاطئ الجناح ثم ساروا مشيا على الأقدام مئات الأمتار في أرض عدوّة حتى وصلوا الى برج أبي حيّدر فتسلّقوه من احدى جهاته ثم خرجوا منه وساروا مجدداً حتى وصلوا الى سور بيروت (وقد أخذ منهم التعب) فتسلّقوه مجدداً ودخلوا المدينة... وعندما لاحقهم الأهالي أسرعوا بالهروب الى محل نزولهم في الجناح؟؟ ولا يسع أي محلل عسكري عندها إلا أن يؤكد غباء قيادة هذه الحملة العسكرية وخط سيرها؟ ولو أن الذين نقلوا مزاعم إبراهيم كنعان توسّعوا في بحث جغرافية بيروت واطّلعوا على ما كتبته جريدة «حديقة الأخبار» في عددها الصادر في شباط 1858م لأدركوا خطأهم. فقد قالت الصحيفة «قذفت الأمواج والرياح بباخرة الى البر كانت ملتجئة بالمرسى المعروف بالغناس بقرب نهر بيروت».
وهكذا يستقيم خبر الحملة العسكرية فقد نزل العسكر من المراكب عند برج أبي هدير (قرب الكرنتينا) وساروا أمتاراً قليلة فوصلوا الى السور عند باب الدباغة وتسلقوه ثم انهزموا الى الغناس وغادروا الخ.
جنوح السفن عند مرفأ الغناس
يبدو ان مرفأ الغناس لم يكن كافيا لحماية السفن من العواصف والأنواء. ما أدّى الى تضرر عدة سفن. ففي شباط سنة 1858م قذفت الأمواج سفينة نمساوية الى مرفأ الغناس الذي لم يحمها من الأمطار والثلوج بعد أن انقطع الاتصال بين بيروت ودمشق لأن الثلوج أقامت جبالا فوق جبال لبنان وحالت بين الصادرين والواردين فأقاموا خلفها وأمامها وكأنهم يتمثلون بقول المتنبي:
وجبال لبنان وكيف يقطعها
وهو الشتاء وصيفهن شتاءُ
لبس الثلوج بها على مسالكي
فكأنها ببياضها سوداء
وفي عهد والي صيدا أحمد باشا جنحت عدة سفن شارك الوالي في إنقاذها. ففي شهر رمضان 1279هـ/ شباط 1863م كانت الباخرة جوردن (الأردن) حاملة حجاجاً لزيارة الأراضي المقدسة في فلسطين وقادمة من الآستانة وكان الطقس عاصفاً والبحر هائجاً فقذفتها الأمواج على جنبها خلف قلعة بيروت تحت مقبرة الخارجة ووصل الخبر الى الوالي فاهتم بالأمر وعمّم الأمر بإنقاذ البحرية والركاب وبإحضارهم إلى حمام السراي وقاية من البرد. وشحطت الباخرة (ترون) الإنكليزية على سلسلة الصخور إزاء الكرنتينا كما شحطت الباخرة الإيطالية كورير ديسبرو على الرميلة وشحطت سكونيات أمام الجمرك وكذلك في الغناس قرب الكرنتينا إلا أن أحداً لم يتمكن من الوصول الى الباخرة (ترون) فاستجلب الوالي مدفعاً من القشلة الهمايونية مع بعض الأنفار وأنار المشاعل لإعطاء النور وأمر بإطلاق المدفع على السفينة مدكوكاً بخشبة ربط فيها حبل قاصداً إيصاله الى السفينة فتتعلق به البحرية ويصعدون الى البرّ. وكرروا ذلك مراراً دون طائل. ثم أحضروا سهاماً نارية ربط الحبل فيها وأطلقت على المركب فلم تصبه. ولما ضاقت الحيل رتّب الوالي خفراً عسكرياً وأمر بدوام إنارة المشاعل حتى يمكن ركوب البحر بالفلائك. وقد تكسرت في حينه ثلاث سفن لمحمد الفلاح وعبد الله السمين ومحمد عكرة. مدح الشيخ قاسم أبو الحسن الكستي أحمد باشا والي إيالة صيدا بقصيدة قال فيها:
لاحت بدور المجد في فلك العلا
وبها منار السعد أشرق وانجلى
بمظاهر الشرف الذي باهت به
أبناءُ بيروتَ السماك الأعزلا
هو أحمد الفضل الذي أوصافه
بسنائها وجه الزمان تجملا
ذو همّة خصّت بكل كريمة
عن حزمها يُروى الحديث مسلسلا
* مؤرخ