بيروت - لبنان

اخر الأخبار

29 أيار 2021 12:01ص أوراق بيروتية (17): «شنشكير» (جاشنكير) من بيروت في قصر طوب كابي

حجم الخط
عرفت بيروت العثمانية رجالاً حملوا ألقاباً لوظائف معروفة منها: الدزدار، والسردار والبيرقدار والخزنة دار والسنجقدار والدفتردار وشيخ البازار (البازار باشي) وشهبندر التجار.
ومن وظائف القصر السلطاني المملوكي ثم العثماني وظيفة الإشراف على ما كان يقدّم للسلطان من طعام ويسمّى من يقوم بتذوّقه قبل السلطان بإسم الجاشنكير أو الشاشنكير.
وردت أقدم كتابة أثرية للفظة جاشنكير سنة 1277م. وهي لوظيفة اسمها مركب من لفظين فارسيين أحدهما جاشنا (أو شاشنا) ومعناه الذوق والثاني كير بمعنى المتعاطي لذلك، فإجمالاً هو الذي يذوق الطعام والشراب قبل أن يتناوله السلطان أو الأمير، خشية أن يكون مسموماً. وكان لحامل هذه الوظيفة حق الإشراف على صحة الطعام والشراب ومراقبة من يقومون بإعداده والتأكّد من إخلاصهم. وكان يقف على السماط أثناء جلوس السلطان عليه. وقد عرفت هذه الوظيفة عند الغزنوية والسلاجقة والأتابكة والأيوبيين، غير أنها حظيت في عصر المماليك بدرجة عالية من الترتيب والتنظيم، فكانت الحادية عشرة ضمن الوظائف الخمس والعشرين الرئيسة بالحضرة السلطانية. وكان الجاشنكير يحظى بخلعة من السلطان في بعض المناسبات كرجوع السلطان من صلاة الجمعة والعيدين كما كان له علم خاص بوظيفته.
وقد تبوأ كثير من الجاشنكيرية مناصب عالية ومع ذلك ظلّوا محتفظين بلقب الجاشنكير حتى من صار منهم سلطاناً مثل عز الدين أيبك التركماني جاشنكير الملك الصالح نجم الدين أيوب الذي صار أول سلاطين المماليك في مصر، وكذلك السلطان ركن الدين بيبرس الجاشنكير، وكان احتفاظ المماليك بأسماء وظائفهم الأولى من التقاليد الشائعة لديهم.

من هو شنشكير البيروتي؟
عرفت بيروت من احتفظ بشهرة الجاشنكير وكانت العامة تلفظها شانشاكير أو شنشكير. وأما أول من حمل هذا اللقب فتعلمنا عنه وثيقة شرعية نادرة في خزانتنا نسخة منها تعود الى أول شهر محرم الحرام سنة 1219هـ/ نيسان 1804م وهي تفيد أن الحاج بكري ابن الشيخ حسن زنتوت الشهير سنتها (أي بتاريخ الوثيقة) بالعريس، حضر الى المجلس الشرعي في بيروت لدى القاضي الشيخ عبد الهادي قرنفل ووقف دكاناً يملكه في سوق العطارين على مصالح زاوية بني زنتوت. وقد ذيّلت الوثيقة بأسماء عدة شهود كان من بينهم المدعو «سعيد الشنشكير». (وهذه الوثيقة الشرعية غير موجودة في سجلات محكمة بيروت الشرعية المتوفرة حالياً والتي يعود أقدمها إلى سنة 1843م).
أما عن هوية هذا الشنشكير، فتعلمنا عنه وثيقة شرعية مؤرخة في العاشر من شهر شـــــوال سنة 1261هـ/ 1845م موضوعها مصالحة بين آل شملي والصالحاني ويتبيّن منها أن الحاج محمد بن المرحوم «سعيد الشنشكير الشهير بالدنا» كان وكيلاً عن أحد فرقاء النزاع وأن أحد الشهود كان الحاج مصطفى الدنا شقيق سعيد الوكيل المشار إليه. وفي وثيقة أخرى مؤرخة في الرابع من شهر ذي الحجة الحرام سنة 1268هـ/ 1852م بموضوع تركة طنوس الحنيكاتي، كان أحد الشهود فيها الحاج محمد بن المرحوم السيد سعيد الدنا الشنشكير.
يذكر أنه في الوثيقة المؤرخة في الثامن عشر من شهر جمادى الأولى سنة 1263هـ/ 1847م حول مبايعة قطعة أرض مفرزة من بستان قراقيره الكائن فوق حي عين الباشورة ذكر فيها أن الحاج محمد بن المرحوم السيد سعيد الدنا شنكشير (هكذا كتبت) وشقيقته الحاجة نفيسة باعا القطعة المشار إليها الى محيي الدين شاتيلا وذلك بشهادة شقيقي البائعين أحمد والحاج مصطفى ولدي سعيد المذكور. كما تفيد وثيقة مؤرخة في الرابع عشر من شهر ربيع الثاني سنة 1321هـ/ 1903م بأن الحاج رشيد بن الحاج مصطفى الدنا كان وكيلاً عن سليم آصاف وأنه توفي أثناءالمحاكمة فتابع الدعوى شقيقه عبد القادر الدنا.
وأسرة الدنا من الأسر الإسلامية القديمة في بيروت كانت لهم عدة عقارات داخل بيروت القديمة وخارجها منها دكاكين في سوق الدلالين، وجنينة وبيت ملاصق للسرايا، وبيت في الساحة القديمة ساحة الشهداء العتيقة (شهداء الحروب الصليبية) قرب الجامع العمري الكبير إضافة الى عدة عقارات في حي عين الباشورة.
لم تشر المصادر المتوفرة الى تاريخ تولّي سعيد الدنا وظيفة الجاشنكيرية وان كان من الواضح أن ذلك يعود الى ما قبل سنة 1804م بكثير لارتباطها بشهرة من تولّاها واستمرار ذلك الى زمن طويل، وقد يكون في الإطّلاع على السجلات العثمانية الخاصة ببيروت فائدة كبيرة لإيضاح ذلك.
أهمية تولّي سعيد الدنا وظيفة شنشكير
تبدو أهمية تولّي سعيد الدنا وظيفة الجاشنكيرية أي حماية السلطان من التسمم فيما قام به أبناؤه وأحفاده من بعده في بيروت من مناقب والأدوار التي مارسوها في السياسة والثقافة والإدارة والتجارة، ناهيك عن العلاقات التي قامت بين البعض منهم وبين رجال القصر العثماني وحاشية السلطان عبد الحميد الثاني (المابين) ولا سيما الصدر الأعظم أبو الهدى الصيادي الرفاعي.
ومن هؤلاء الأحفاد نذكر عبد القادر الدنا الذي كان وكيلاً لأبي الهدى أفندي، أتقن اللغة التركية كتابة وقراءة وإلقاء، ترجم تاريخ جودت الى العربية وطبع كتاب الأمير محمد بن عبد القادر الجزائري ونشر ديوان أبي الهدى الصيادي. وألّف كتاب «تحفة العالم في أخبار سيد ولد آدم» طبع الجزء الأول منه في بيروت سنة 1321هـ في 334 صفحة.
تقلّد عبد القادر الدنا وظائف إدارية وتجارية ثقافية مختلفة منها رئاسة مجلس تجارة حلب ووكالة البواخر الخديوية في بيروت وترأس مجلس تجارة بيروت وعيّن مديراً لمكتب الرشدية وقائمقام صيدا ورئاسة شعبة المعارف الأهلية (التي أنشئت بعد حل جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية في بيروت)، كما تولّى عبد القادر الدنا رئاسة مجلس بلدية بيروت سنة 1906م. وقد شهدنا بيته في محلة الخندق الغميق على مقربة من المقر السابق لجمعية الشابات المسلمات، الذي كان مورداً لكبار الزوار من مختلف أرجاء الدولة العثمانية وعلى رأسهم رجل الكرامات الشيخ علي العمري الطرابلسي التي حدثت له كرامة في البيت المشار إليه كما ذكر الشيخ يوسف النبهاني. وسوف نفرد له ترجمة وافية في مقال آخر.
ونشير في هذا المقام الى شقيق عبد القادر محمد رشيد الدنا (1857 - 1902م) الذي انشأ جريدة «بيروت» ومطبعتها في الثاني والعشرين من شهر آذار سنة 1886م وظلّ يشرف عليها ويحررها مدة ست عشرة سنة متوالية وكانت سياسية تجارية أدبية وتصدر مرتين في الأسبوع وقد غلب عليها طابع الاعتدال واحترام الطوائف والمذاهب كافة. فأقبل على قراءتها الأعيان والوجهاء. ومن الأدباء الكبار الذي أسهموا في تحرير الجريدة سليم عباس الشلفون والشيخ محيي الدين الخياط. وبعد وفاة محمد رشيد الدنا أحيل امتياز الجريدة الى شقيقه محمد أمين الدنا وأصبحت تصدر أحياناً أسبوعية أو نصف أسبوعية أو يومية وفقاً للظروف وقد احتجبت نهائياً سنة 1909م. وكان بينها وبين جريدة «ثمرات الفنون» لصاحبها الشيخ عبد القادر قباني نقاشات اتصفت بالحدّة أحياناً.
يذكر أن محمد رشيد الدنا ولد في بيروت سنة 1857م وهو ابن الحاج مصطفى ابن السيد سعيد الدنا (الشنشكير) أجاد العربية والتركية والفرنسية. درس في مدرسة المعلم بطرس البستاني وتلقّى العلوم الفقهية والدينية على العالم الشيخ محمد مرتضى الحسني أحد العلماء الجزائريين الذين قدموا الى بيروت وسكنوا وتوفوا فيها وضريحه الى جانب ضريح محمد رشيد الدنا في جبانة الباشورة. وقد خدم محمد رشيد الدنا الدولة العثمانية في سلك الإدارة والتلغراف في لبنان والحجاز وأسهمت مطبعته في نشر المؤلفات القيمة ومنها كتاب «تاريخ الدولة العثمانية» للمؤرخ التركي الشهير أحمد جودت باشا.
نال محمد رشيد الدنا الرتبة الثالثة فالثانية فالمتمايزة والوسامين العثماني والمجيدي من الرتبة الرابعة، وعلى شاهد قبر محمد رشيد الدنا رحمه الله في مقبرة الباشورة الأبيات الآتية:
قبر به حلّ رشيد الدنا
وقد بكى حزناً عليه الزمانْ
بيروت تبكيه بدمع جرى
فوق خدود الطرس مثل الجمان
كان لها ركناً ركيناً وقد
نالت به بالشرق أسمى مكان
واشتهر من أسرة الدنا مصباح الدنا الذي كان عضواً سنة 1901م في اللجنة التي شكّلت في بيروت برئاسة المفتي الشيخ عبد الباسط الفاخوري من أجل جمع جلود الأضاحي بواسطة موظفي البلدية والمخاتير وكانت تباع بالمزاد ويحوّل ثمنها الى نقود ترسل الى لجنة إعانة السكة الحديدة الحجازية في نظارة المالية في الأستانة.
ومنهم الحاج رضوان بن علي الدنا الذي اشتغل بالتجارة وتملّك عدة عقارات منها بستان كبير في حي عين الباشورة، قام في شهر شوال سنة 1266هـ/ 1850م هو وزوجته ببيع قطعة مفرزة من البستان، وكانت بجواره عقارات لأبناء رضوان علي وحسن والحاج حسين (زوجته فاطمة علي القاطرجي). يذكر أن الحاج رضوان علي الدنا كان قد رتب حكراً على أرضه المذكورة لمقام الإمام الأوزاعي رضي الله عنه في كل سنة قدره عشرة قروشا. ولا يزال أحفاد رضوان الدنا يعرفون بالشهرة «رضوان الدنا».
نشير الى أن فرعاً من آل الدنا هو أحمد بن حسين بن محمد الدنا سكن في الدامور فعرف بالداموري.
ومن هذه العائلة الكريمة الصديق الوفي الأستاذ عثمان مصباح الدنا الوزير والنائب والقاضي السابق ولسيرته موضعها.

* مؤرخ