بيروت - لبنان

اخر الأخبار

5 حزيران 2021 12:01ص أوراق بيروتية (18): إبراهيم الجوهري شيخ بندر ومحمد زنتوت شاه بندر

حجم الخط
في الكسب نظام العالم، والعالم محكوم بالبقاء إلى حين فنائه، فكسب الإنسان سبب البقاء والنظام وفي تركه تخريب نظامه. وفي الآثار ان الأنبياء كانوا يأكلون من كسبهــم. وأشرف الحرف التجارة وحسبها شرفاً ان أشرف الخلق صلى الله عليه وسلم اتّجر في مال زوجته خديجة رضي الله عنها.
وقد حرص الفقهاء والمشرّعون على أن يكون تعامل التجار مؤسساً على قواعد الأخلاق والعدل حتى تستقيم المعاملات بين الناس بلا غش أو غبن أو تدليس، وروي انه لا يحلّ للرجل أن يعمل بالبيع والشراء ما لم يحفظ كتاب البيوع، وانه على كل تاجر يحتاط لدينه أن يصحب فقيها (مستشاراً قانونياً) يشاوره في معاملاته، فالتجارة في خدمة الإنسان والقواعد التجارية تأسست على القواعد الأخلاقية، فالعقد فيها عهد وحسن النيّة وشرف المعاملة أساس التجارة. والعلاقات التجارية تنفرد بخصائص ذاتية أهمها الائتمان والثقة والسرعة والمرونة.
قيل إن أرباب الأموال يفوزون بالثواب والأجر، لأنهم بالمال يتمكنون من القيام بالأعمال الصالحة. وهو ما شرحه العلماء في بحث «الغني الشاكر والفقير الصابر»، فالشكر بذل المال في سبيل الخير ووجوه المصالح، جاء في الحديث الشريف: ذهب أهل الدثور بالأجور (والدثور جمع دثر وهو المال الكثير). يعني أن أرباب الأموال هم الذين يفوزون بالثواب والأجر لأنهم بالمال يتمكنون من ضروب الأعمال الصالحة، فتوفّر تلك الأعمال يكون على قدر توفّر الأمــوال.


ونشأت من التعامل التجاري أعراف وعادات وتقاليد استمر الأخذ بها مدة طويلة بحيث أصبحت ملزمة كالقواعد القانونية، يذكر ان القانون التجاري ولا سيما التجارة البحرية نشأ نشأة عرفية في الجمهوريات الإيطالية القديمة وفي أسواق القرون الوسطى وبقيت الحياة التجارية لمدة طويلة خاضعة لحكم الأعراف.
شاع في بيروت قديماً ان أحرف لفظة الـ: «تاجر» الأربعة مستمدّة من أوائل أربع كلمات. فالتاء من تقوى، والألف من أمانة والجيم من جرأة والراء من رحمة. فالتاجر تقيّ أمين جريء ورحوم ينظر الى ميسرة. ونعني بالتقوى علاقة الفرد بالجماعة وعلاقة الفرد مع الله أي أن يتقي الإنسان كل ما كان فيه ضرر لنفسه أو ضِرار لغيره. ولا يقصد بالتقوى ما صارت إليه في معناها السائد وهو الذل والانكسار والمسكنة والزهد في الدنيا بذريعة الهروب من استبداد الملوك وظلم الحكام وفساد الرؤساء.
وقد تواضع التجار في بيروت أن على التاجر كي يأمن غوائل الزمن وتقلّب الأسعار وكي يصحّ أن يوصف بالتاجر، عليه أن يوزع أمواله ثلاثة أقسام: ثلثها أموالاً نقدية في صناديقه وثلثها بضائع في مخازنه والثلث الآخر عقارات (أراضٍ ومبانٍ)، فإذا خسر جزءاً من الأجزاء الثلاثة قام الاثنان الباقيان بإنقاذه، أما التويجر فهو الذي يضع أمواله في قسمين ويكون معرّضاً لخسارة كبيرة، وأما الذي يضع أمواله كلها في نشاط واحد فإنه يتعرّض لخسارة محتّمة ويوصف بأنه ذنب التجار.
وقد عُني العرب بالنظرية العامة للتجارة ومارسوها. من ذلك ما كتبه الغزالي في الأحياء ورسالة الجاحظ في التجارة وكتاب «الإشارة الى محاسن التجارة» لأبي الفضل جعفر بن علي الدمشقي... وعُني الشرع الإسلامي بالكمبيالة وسمّوها «سفتجة» معرّبة من الفارسية عن كلمة سفته أي الشيء المحكّم. وعرّفها الفقهاء بأنها «قرض استفاد به المقرض سقوط خطر الطريق» وصورته أن يدفع الى تاجر مالاً بطريق الاقراض ليدفعه الى صديق له في بلد آخر لسقوط خطر الطريق. وكانت العرب تصف الكتب بأنها سفاتج إذا كانت رائجة رواج السفتجة.
روى ابن الجوزي في «أخبار الظِّراف والمتماجنين» «قال الجمّاز، قال لي أبو كعب القاصّ: والدتي بالبصرة وأنا شديد الشفقة عليها وأخاف إن حملتها الى بغداد في الماء أن تغرق. وإن حملتها على الظهر أن تتعب فماذا تشير عليّ في أمرها؟ فقلت له: أشير عليك أن تأخذ بها سفتجة». مما يشير الى تطوّر النظام المالي عند العرب وشيوع السفتجة وهو هنا يشير عليه أن يعطي أمه أحد الصيارفة ويأخذ بها سفتجة.
ومن المفيد الإشارة الى اننا طالما كنا أثناء تجوالنا في أسواق بيروت القديمة نشاهد بعض أصحاب الدكاكين واضعاً قلماً على أذنه حتى لا يختلط بالأوراق والفواتير أو رابطاً القلم بخيط كي لا ينتقل الى يد زبون من الزبائن، وكان هذا القلم من الكوبيا وهو نوع من المعدن المائل لونه الى النيلي لا ينمحي بسهولة بل يبقى سنوات طوال، أما القيد المزدوج المسمّى دوبيا وهذه من الإيطالية Doppia فكان السائد لدى التجار ان اللازم أو رابطاً القلم بخيط: قلم كوبيا ودفتر دوبيا، وذكر القلقشندي في موسوعته «صبح الأعشى في صناعة الإنشا» (3/39) عن محمد بن عمر المدني قوله: يستحبّ للكاتب في كتابته إذا فكّر في حاجة أن يضع القلم على أذنه. وساق بسنده الى أنس بن مالك رضي الله عنه: ان معاوية بن أبي سفيان كان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم فكان إذا رأى من النبي إعراضاً وضع القلم في فيه فنظر إليه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا معاوية إذا كنت كاتباً فضعِ القلم على أذنك فإنّه أذكرُ لك وللملي. وساق بسنده القول نفسه من النبي صلى الله عليه وسلم الى زيد بن ثابت.
الجوهري شهبندر التجار
تدلّنا وثائق بيروت على وجود تنظيمات إدارية قديمة ترعى ممارسة التجارة والإشراف على الأسواق ولا سيما بعد انتقال الثقل التجاري من صيدا الى بيروت واتخاذها مركزاً لعمل التجار الأجانب فازدهرت تجارتها ما دعا التجار الى تنظيم أوضاعهم وإرساء تقاليدهم.
صنفان من التجار عرفتهما أسواق بيروت إسوة ببقية الثغور العثمانية وقبل تأسيس المجالس التجارية، هما: شيخ البازار أو البازار باشي وشهبندر التجار أو شاهبندر (أو شيخ البندر) وبندر تعني ميناء ثم أطلقت على المدينة. وشهبندر فارسية من «شاه» وتعني رئيس و«بندر» وتعني ميناء. وقد استعملت في تاريخ بيروت كلمتي شيخ التجار وشاه بندر التجار.
عرفت بيروت في أوائل القرن التاسع عشر الحاج إبراهيم آغا ابن الحاج يوسف الجوهري الصيداوي باعتباره «شيخ بندر تجار بيروت» وقد وصفه مفتي بيروت وقاضيها الشيخ أحمد الأغر بأنه «افتخار السادات الأشراف المعتبرين وعمدة التجار الموقرين» ومدحه سنة 1817م:
قالت بثغر خمرة
تزري بطعم السكري
والوجه في جوهر
ولا وجهَ غير الجوهري
وقال فيه أيضاً:
كم قيل لي من أبيض الوجه بنا
كقلبه وعرضه لم أخبرِ 
مذ قال لي البلور ذا وصفي غدا
فقلت مه بل ذاك وصف الجوهري 
وفي سنة 1825م أشار المفتي الأغر الى دور بيروت التجاري واختيار الجوهري للعمل فيها ووصفه بانه «افتخار السادات الأشراف المعتبرين عمدة التجار الموقرين السيد الحاج إبراهيم آغا ابن الحاج يوسف الجوهري الصيداوي شيخ بندر تجار بيروت»، وقال موريا في مدحه:
بيروت أضحت درّة يربح فيها المشتري
لو لم تكن جوهرة ما اختارها ابن الجوهري
الشهم إبراهيم من كما له لم ينكر
وفي ديوان المفتي الشيخ عبد اللطيف فتح الله انه مدح صاحبه الحاج إبراهيم الجوهري ارتجالاً:
نسبت للجوهر يا جوهري
وأنت عينه ولا امتري
وأنت عندي جوهر مفرد
والجوهر الفرد هو الجوهري
يذكر ان الحاج إبراهيم الجوهري طلب سنة 1826م من الشيخ أحمد الأغر عروض على قدّ أغنية كانت رائجة في بيروت في حينه «يا من زرع حوضنا من كل ألوان، من غيّتو شكّلو زنبق وسوسان»، فأجابه لمطلوبه وبادره بمرغوبه ونظم موشحاً منه:
يا منيتي يا رشيق القدّ يا ثاني
عطفيه يا ذا البها يا قامة البانِ
جاء الربيع فقم خلّي لشرب الراح
هذا زمان الصفا واللهو والأفراح
أفديك بالأهل والأموال والأرواح
صلني ولا تشمت اللاحي بهجراني
يا قاسيا يا لين الاعطاف يا ظبي
وادي النقا يا باهي الاوصاف
عامل مساكين أهل العشق بالإنصاف
واسمح وجد باللقا يا نور إنساني
ابدا محياك للصبّ الشجي حسنه
فكان للناس في دين الهوى فتنه
زنتوت شهبندر التجار
وتفيدنا وثيقة مؤرخة في السادس من شهر محرم الحرام سنة 1133هـ/1720م أن أحمد زنتوت وقف بعض عقاراته على أولاده الذكور، وان الوقف انتقل بعد وفاته الى ابنه الشيخ ناصر زنتوت ثم الى حفيده أحمد زنتوت وان هذا الأخير توفي عن ولدين هما: مصطفى زنتوت ومحمد زنتوت، وقد وصف هذا الأخير «بالشاهبندر». مما يدل على قِدَم استعمال لقب الشهبندر في بيروت. يذكر أن مارية بنت الشهبندر المذكور كانت متزوجة من دزدار قلعة بيروت (ضابط قلعة بيروت ورئيس حاميتها) عبدي آغا ابن الحاج حسن القصار البيروتي.

* مؤرخ