بيروت - لبنان

اخر الأخبار

31 تموز 2021 12:00ص أوراق بيروتية (26 ): أبو عسكر يونس الجبيلي... ومنزوله... وفشخته

حجم الخط
كانت ليونس نقولا الجبيلي، أحد أعيان الروم ووجهائهم، بصمة ثابتة في تاريخ بيروت لا سيما خلال تولّيه إدارة جمرك المدينة لمدة عشر سنوات في عهد أحمد باشا الجزار وتقديمه منزول بيته للبيارتة، مسلمين ومسيحيين، كي يقيموا أفراح أبنائهم إضافة الى الكثير مما تحلّى به من الفضائل والمآثر.

أدّى تسلّم أحمد باشا الجزار أمور بيروت الى انحسار حكم الأمراء الشهابيين عنها وعن تسلّطهم على أرزاقها وتجارتها حتى يمكن القول بأن السنة التي دخل فيها الجزار الى بيروت أي سنة 1770م شكّلت مرحلة جديدة من تاريخ المدينة شهد خلالها الجبيليون الذين نزحوا أو اجبروا على النزوح من جبيل وقراها بخعاز والبربارة وغرزوز وغيرها الى بيروت بفعل التفنكجية ظاهراً ورضى الأمير يوسف الشهابي ضمناً، شهدوا نهاية الأمير وحكمه ولا أدلّ على ذلك من التعاون الذي تم بين الجزار والبيارتة وعلى رأسهم الشيخ أحمد البربير والمفتي الشيخ عبد اللطيف فتح الله ويونس نقولا الجبيلي الشهير بأبي عسكر وما كان لهذا الأخير من دور بارز.

السراسقة من جبيل إلى بيروت

وكما نسب مسلمو جبيل الى الجبيليين كذلك نسب مسيحيوها الى الجبيليين أيضاً. يذكر ان من ضمن أوقاف جامع الأمير منذر دكانة كانت مشغولة من جرجس الجبيلي، كما ذكرت وثائق أخرى قسطنطين الجبيلي وقد سلّمنا الصديق فيليب العسيلي نسخا عن وثائق أوقاف أبي عسكر المحفوظة أصولها لدى السيد بول الجبيلي. وأقدم من نزح الى بيروت أبناء من أسرة سرسق وأصلها من البربارة قرب جبيل، قَدِم جدّها جبور الى بيروت سنة 1712م فوُلد له فيها فضول ومخايل ويونس ونصور أطلق على بعضها لقب الصائغ لصناعته ثم لقب سرسق واشتهرت به. أحرز فرع نصور بن جبور ثروة ضخمة بعد خروج المصريين من سورية وابتنوا سوقاً كبيرة معروفة باسمهم وابتنوا عقارات وقصورا كثيرة.

أبو عسكر يونس نقولا الجبيلي ولقبه

يونس نقولا الجبيلي من أعيان بيروت من الروم بنى كنيسة القديس جاورجيوس وجدّدها وأوقف لها عدة عقارات وثائقها محفوظة لدى السيد بول الجبيلي أرسل لنا نسخها مع الصديق فيليب العسيلي وأحضر سنة 1751 أول مطبعة في بيروت. نال حظوة لدى أحمد باشا الجزار فأوكل إليه نظارة ديوان جمرك بيروت استمر به مدة عشر سنوات حتى وفاته سنة 1781م. وكانت كلمة الشيخ أحمد البربير مسموعة لدى الجزار ومن طريف ما ذكره قال «ومما اتفق لي أن الوزير الجزار - عامله الله بالرحمة في دار القرار - كان قد أرسل الى بيروت وأنابها رجلاً من المغاربة ومعه جملة عساكر منهم للمحافظة، فعاث عسكره عيث الجراد وشمّر عن ساق الأذى والفساد حتى اشكت منه بقاع البلاد فضلاً عن العباد فلزم أنني توجهت نحو رئيسه وكان يدعى بالبخاري ونصحته وخوّفته عقاب الباري، فأجاب بأنه لا يقدر على رد جنوده وأنه يخشى من ذلك عدم وجوده. ففارقته وكتبت للوزير:

وزيرنا طاهر المزايا

فاقصد ندا جوده ويمّمْ

قد خصّ ببيروت بالبخاري

يا ليته خصّها بمسلم

فلما قرأ الجزار البيتين أمر كاتبه أن يكتب لذلك المغربي كتاباً يأمره فيه بالقدوم هو وعسكره الى عكا ولا يتباطأ مقدار طرفة عين فأزاله من يزيل الجبال وكفى الله المؤمنين شر القتال (ذكر الحصني في «منتخبات التواريخ» البيتين بلفظ آخر هو أميرنا ذو المعالي أكرم به ثم أنعم قد خصّنا بالبخاري يا ليته كان مسلم)، وكلّف الجزار يونس نقولا بتنظيم عسكر المدينة فعرف بأبي عسكر (د. أسامة عانوتي. الحركة الأدبية في بلاد الشام خلال القرن الثامن عشر بيروت 1971).

أخلاق أبي عسكر

كان أبو عسكر محبّا للجميع، محبوبا من الجميع، معتبرا عند الجمهور، حتى انه كان ينهض كل يوم من داره الى ديوان الجمرك فحيثما مرَّ في السوق قامت الناس من مسلمين ومسيحيين تحييه فلا يملك أن يرد التحية بكل ألفاظها فيقتصر على البعض. روي ان منازعة حصلت بين شقيق أبي عسكر وأحد الأهالي يدعى سيد أحمد الزوين الذي شتمه فشكا الى أخيه منتظرا الانتقام إلا ان أبا عسكر وعد شقيقه بحلّ الأمر، فأعطى بعض الحمّالين قفّة من الأرز لحملها الى بيت سيد أحمد، فلما كان المساء اجتمع أحمد ورفاقه ومشوا الى دار أبي عسكر ودخلوا عليه فأكرمهم واعتذروا لأخيه.

دار أبي عسكر في الساحة

بموجب الوثيقة المؤرخة في التاسع والعشرين من شهر شوال سنة 1233هـ/ 1818م وقف درويش ابن الشيخ علي آغا القصار جميع الدكان المعقودة بالمؤن والأحجار والمعروفة سابقا بدكان بني نقولا الجبيلي أسفل دارهم المعروفة الآن بهم والكائنة في الساحة الشهيرة. يحدّ الدكان قبلة الدار المذكورة (وكان هذا الوقف لمصلحة جامع ومقام السيد البدوي في طنطا بمصر). وتكررت الإشارة الى الساحة في عدة وثائق منها وثيقة في شهر شوال سنة 1268هـ/ 1852م بمعرض تولية الحاج محمد القصار على الوقف المذكور. وتفيد الوثيقة المؤرخة في الحادي عشر من شهر جمادى الأولى سنة 1263هـ/ 1847م مبايعة دكان سفلي دار ملك جناب الشيخ أحمد الاغر الكائنة في «الساحة». والمقصود بالساحة الفسحة الكائنة قديما قرب الجامع العمري الكبير وتحديداً عند تقاطع شارعي ويغان واللنبي الحاليين. وأصل تسميتها بساحة (أي ساحة الشهداء) للشباب البيارتة الذين استشهدوا في الموقع المذكور خلال المعارك مع الفرنجة (أشرنا الى الساحة في كتابنا «زوايا بيروت»).

موقع منزول أبي عسكر

لتحديد موقع دار - حارة أبي عسكر ومنزوله رجعنا الى بعض الوثائق منها واحدة مؤرخة في الخامس عشر من شهر شوال سنة 1263/ 1847م وفيها ان يوسف مخايل الجبيلي باع الى ابن عمه نقولا نعمة الجبيلي مربعين وإيوان كبير وثمانية قراريط من «المنزول الذي يفتح بابه من الطريق مقابل قهوة الطبال المعقود بالمؤن والأحجار الملاصق لدار بني الجبيلي شركة وقف الجامع العمري الكبير بثلثي المنزول». ويتبيّن من وثيقة مؤرخة في التاسع عشر من شهر ذي الحجة الحرام سنة 1286هـ/ 1870م شراء الحاج عبد القادر شبقلو اثني عشر قيراطا من الإيوان الواقع في دار بني الجمال الكائنة في محلة زاوية الحمراء، يحدّه شمالا «دار أبي عسكر». وأكثر من ذلك، ففي الوثيقة المؤرخة في الرابع عشر من شهر رجب الفرد سنة 1291هـ/ 1875م ان كلثوم بنت محمد القصار باعت قيراطين وعشر القيراط من البيت الواقع في الدار المعروفة ببني القصار الكائنة في زقاق ومحلة الحدرة، يحدّه قبلة زاوية بني القصار وشرقا «حارة أبي عسكر». ويفيد السجل الشرعي لسنة 1259 (ص 18-20) انه توجد في الساحة «قهوة الشهداء وزاوية الشهداء ومن جيرانها بيت فلان وفلان... ومنزول بيت الجبيلي» («المنزول» ص 71 و17) ويقع هذا الأخير تحديدا في موقع ناحية الوقف المشغولة من شركة باتشي (عند تقاطع شارعي ويغان واللنبي).

فشخة أبي عسكر

ذكر د. أسامة عانوتي «لم تزل بعض أزقة البلدة تعرف بفشخة أبي عسكر». ولعل وقوع دار أبي عسكر في الفشخة غلبت على تسميتها باسمه نظرا لمركزه الاجتماعي ولداره الكبيرة. يذكر ان الفشخة ترد في الوثائق أحيانا بمحلة الفشخة وبسوق الفشخة وبالفشخة وان بعض الأسر المعروفة في بيروت سكنت فيها منها أسرة التويني. ففي الوثيقة المؤرخة سنة 1262هـ/ 1846م ان فرج التويني باع المربع الكائن في حارة بني التويني الكائنة في «محلة الفشخة». وفي الوثيقة المؤرخة في الحادي والعشرين من شهر جمادى الأولى سنة 1259هـ/ 1843م جرت مصالحة على دكان معروفة ببني القوتلي الواقعة تجاه زاروب أبي واكد الكائنة في «الساحة» قريبا من الفشخة . وتتضمن الوثيقة المؤرخة في الثاني والعشرين من شهر رجب الفرد سنة 1279هـ/1863م مبايعة دكان في «سوق الفشخة» يحدّها قبلة دكان بني القباني وشرقا دكان بني فروخ وغربا دكان سعد الدين قريعة.

والمقصود بالفشخة الطريق التي كانت ممتدة من جامع السرايا الى منزل أبي عسكر. ولا يوجد اثبات يوضح سبب إطلاق اسم الفشخة على الطريق الممتدة من بوابة السراي الى بوابة ادريس. والمرجح ان التسمية عائدة الى ضيق الطريق وازدحام الناس فيها وربما لأن عرضها لم يكن يتجاوز الفشخة على عادة أجدادنا في قياس المسافة بما تقطعه أقدامهم. وكانت قنطرة في سوق الفشخة سبباً للخصام والنزاع والضرب واللكم. وقد أعطانا أحد البيارتة فكرة عن السوق، قال «كنت ترى الفروش والسحاحير والسلال والأطباق والكراسي مكردسة تلالاً تلالاً على الجانبين أمام الحوانيت. إضافة الى صاحب الدكان وأولاده وحماره وخروفه وبضاعته التي فرشها أمام الدكان. ناهيك بالباعة الجوالين كباعة البوظة مع أدواتهم مثل تنكة البوظة وعلبتها وصندوق الملح وقالب الثلج وتنكة الأقداح والملاعق والمنشار والمضرب والمقشط. وباعة الحلاوة الجزرية والسكرية والسمسمية ومع كل واحد منهم الفرش والسيبة. ويمرُّ في السوق حاملو قِرب السوس والليموناضة وبائعو المعلل بيعلك والكعك وحلّي سنونك. وانتهاء بقوافل الدواب التي تجتاز السوق متهادية ذات اليمين وذات الشمال. هذا إذا لم يخترق الجمهور رتل من حمير الحجّارة التي كانت تنقل الحجارة من مقالع المصيطبة والزيدانية الى ورش البناء. ومن قصّاب يحمل على ظهره خروفاً مذبوحاً وينادي محذّراً المارة: ظهرك ، وجّك، بالك... ولكن بعد أن يكون قد لطخ ظهرك وشوّه قدرك.

حفلات زفاف أبناء البيارتة في منزول أبي عسكر

جرت عادة البيارتة تقديم بيوتهم لأقاربهم وأصدقائهم لإقامة حفلات زفاف أولادهم. فعلى سبيل المثال، جرى حفل زفاف عبد الله عمر غزاوي في دارة آل حمادة، وجرى حفل زفاف أحمد بن حسن القاضي في دار الحاج إبراهيم طيارة، وجرى حفل زفاف رشيد الكبي (والد الدكتور جميل) في بيت محمد فاخوري بالبيت الذي كان يسكنه والي سورية أحمد حمدي باشا وتوفي فيه وكان ملكا لآل العريس وقد هُدّم ومحله حديقة الولاية.

في ذكريات الشيخ عبد القادر قباني التي نشرتها مجلة «الكشاف» سنة 1927م ان « البيارتة كانوا يستعيرون ديار منزل أبي عسكر (الديار لدى البيارتة تعني الدار الوسيعة وسط البيت وحولها الغرف) فكانوا يصفّون المقاعد والكراسي ويسرجون القناديل ويدعون الناس لسهرات أفراحهم، ثم تبدّلت هذه العادة فأخذوا يستعيرون دار الشيخ علي الفاخوري في زاروب الشيخ رسلان وكانت داره فسيحة وغرفها كثيرة. نشر البعض صورة من متحف البرت خان يرجح أن تكون لدار أبي عسكر وتبدو ضخامة البناء وما يحويه من قناطر وأقبية وغرف وإيوانات وقمريات الطابق العلوي ما يؤهّله ليكون دارا للأفراح.

 * مؤرخ