بيروت - لبنان

اخر الأخبار

14 آب 2021 12:00ص أوراق بيروتية (28): زواريب المبروم والشيخ رسلان والجورة والطمليس وتعباني

حجم الخط
يكتسب الزاروب اسمه من ظرف اجتماعي أو جغرافي أو أثري، فالزواريب الاجتماعية نسبت الى أشخاص كانوا أول من سكن فيها وارتبط الاسم بالمسمّى مدة من الزمن الى أن تدركه نواميس الحياة والتاريخ فيغيب الاسم والمسمّى معا.

زاروب المبروم

من الزواريب التي أخذت اسمها من أثر معماري تاريخي زاروب المبروم، فمن المعلوم ان حفريات أثرية قامت بها بعثات أوروبية في أواخر القرن التاسع عشر أدّت الى عدة اكتشافات منها ما اكتشفه قنصل فرنسا في صيدا ادمون دوريكلو سنة 1884م لمغارة ضمن فرن القنطاري تتضمن آثارا رومانية. وعندما قرر والي بيروت عزمي بك تنفيذ مشروع هدم الأبنية القديمة في بيروت تولّى مهندس البلدية النمساوي دورفلر الإشراف سنتي 1917-1918 على الحفريات واكتشف أعمدة وقناطر المعبد الروماني الذي أقام الصليبيون عليه كنيسة يوحنا المعمدان (الجامع العمري الكبير أو جامع النبي يحيى أو جامع فتوح الإسلام). وقعنا على وثيقة مؤرخة في الثامن من شهر رجب الفرد سنة 1321هـ/ 1903م تفيد وفاة سعيد عبد الله الزغلول (صانع البقلاوة الزغلولية المعروفة بالحدف) وقد ترك ما يورث عنه المنزل الكائن في محلة الغربية في «زاروب المبروم» يحدّه شمالا خان الموزيقة (الموسيقى).

كان سوق البازركان يمتد من جامع الأمير منذر إلى موقع ساحة النجمة اكتشفت من حفريات تلك المحلة أعمدة رومانية وضعت في حديقة مقابل المتحف الوطني، كما عثر في تلك المحلة على أعمدة رومانية سوداء محفورة كأنها حبال ملتوية (مبرومة). ومنها عمود وضع وسط زاروب وسط ساحة البازركان عُرف بزاروب المبروم. ويستدل من الوثيقة التي أشرنا إليها ان الزاروب كان سنة 1903 مشهورا بالمبروم مما يدل على ان اكتشاف العمود المشار إليه تمّ قبل السنة المذكورة. ويرجح القول بأن الأعمدة هي من بقايا معبد روماني أقيم بالقرب من أطلاله جامع الأمير منذر سنة 1620 علما بان فترة معتمة من تاريخ المدينة لا تعلمنا كيف كان الموقع المشار إليه بين تاريخ استيلاء المماليك على بيروت سنة 1291 وتاريخ بناء الجامع.

زاروب الطمليس

في أمثال البيارتة قولهم: «طلطميس ما بيعرف الجمعة من الخميس» يضرب لأعمى القلب أو البصيرة أي الذي لا يميّز بين الأيام أو بين الأشياء. قيل هو مأخوذ من الطميس وهو في اللغة الأعمى الذي ذهب بصره فهو مطموس. وهو لدى العامة أعمى البصيرة لا أعمى البصر. وتقول العامة فهمه مطلمس. طلمس الرجل عبس وقطّب وجهه، كأن وجهه قد أظلم. وفي اللغة أيضاً أن طمس تعني غطى الطريق حتى اختفت مظاهره. طمس قلب الرجل أو عقله ضعف إدراكه للأشياء حتى لا يعي الفارق بينها. وقيل ان طلمس تحريف كلمة طلسم (الرصد).

كانت بيروت القديمة مؤلفة من عدة محلات (جمع محلة) منها محلة الدركاه وكان موضعها ما بين شارع المعرض ومبنى البنك العربي في شارع المصارف. وكانت تحتوي على عدة أزقة (جمع زقاق) وزواريب (جمع زاروب) وهو عند العامة زقاق طويل ضيّق. وعرف أحد زواريبها بإسم «زاروب الطمليس». وكان ضيقاً ومعتماً فلا يكاد الذي يمرُّ فيه يرى أمامه إلا بصعوبة. ومن هنا تسميته بالطمليس. وقد سكنت فيه عائلات كثيرة كصفصوف والبهلوان وسعادة الجدايل وفاخري وطبارة. وقد أمدتنا سجلات محكمة بيروت بشيء من أخبار ذلك الزاروب. منها أنه في سنة 1849م باع أحمد وعثمان وعلي فاخوري دارهم المعروف بدار علي آغا الكباس الكائنة في زاروب الطمليس بعشرة آلاف غرش الى محمد وعلي طباره بشهادة الشيخ عبد الله خالد والشيخ محمد الحوت وحسن حمزة دية. وكان يحدّ الدار شمالاً محمد الطرابلسي وغرباً بيت البعاصيري (سجل 1263/65 ص.183). وفي سنة 1880م جرت مهايأة على دار في زاروب الطمليس في سوق باب الدركاه. وبعد هدم بيروت القديمة أثناء الحرب العالمية الأولى انتقل السكان الذين كانوا في المحلات القديمة للبلدة إلى أماكن جديدة. فكان منهم من سكن في زاروب ضيق يبدأ في كورنيش المزرعة الحالي، الى الشرق جامع عبد الناصر، وينتهي في ساحة أبي شاكر فسمّوا الزاروب المذكور بزاروب الطمليس تيمّناً بالزاروب السالف الذكر.

زاروب الجورة

لم تكن جغرافية بيروت مستوية بل كانت عبارة عن محلتين: الفوقانية والتحتانية، يفصل بينهما شارع ويغان الحالي. فكانت المحلة التحتانية من شارع ويغان الى البحر شمالا وامتدت الفوقانية بين شارع ويغان وشارع الأمير بشير. وكما تفيد الصور القديمة وإفادة المخضرمين فان هذه المحلة كانت تتضمن عدة أدراج منها درج الأربعين الذي يؤدي الى أسواق أبي النصر واللحامين والأرمن ودرج باب الدركاه الذي يوصل الى ساحة النجمة ودرج الحمام الصغير (الفوقاني) وثمّة درج ضيق ملاصق شرقا لكنيسة مار جرجس ينتهي الى سوق أبي النصر مارّا بباعة السكاكر والملبس. وفارق الارتفاع بين شارعي الأمير بشير وويغان يجعل من محلة ساحة النجمة منخفضة عما حولها، والمخضرمون يذكرون عدة درجات من محلات بيع الأجبان قرب كنيسة مار جورجيوس للروم الى الساحة ولعل سبب تسمية المحلة بالحدرة لانحدارها عن راس المعرض، ومن المرجح ان الموقع الذي تنتصب فيه ساعة النجمة كان منخفضا حتى أطلق عليه لفظ الجورة. وهو ما ترشدنا إليه الوثيقة المؤرخة في التاسع عشر من شهر ذي الحجة سنة 1270هـ/ 1855م وموضوعها مقاسمة بين علي الهبري الاسكندري وشقيقه، وجاء في مقدمتها «بعد ان كان جميع القبو المدخل إليه من سلم البئر وجميع الأرضية التي تعلو القبو والتخت الخشب الذي يعلوها المدخل إليها من الايوان الكائن في الدار المعروفة بدار المرحوم الشيخ عمر سعادة الكائنة في زاروب بني سعادة المعروف بزاروب الجورة عند دار بني السقعان بالقرب من كنيسة الروم ودار بني جاويش...». وقد جرت بعد انتهاء الحرب الأهلية حفريات في موقع ساعة النجمة وظهرت أعمدة مختلفة الحجم وعلى واحد منها صليب.

زاروب الشيخ رسلان

روى المرحوم والدي عن عمّه عبد الرحمن أن البيارتة كانوا إذا ضاق أمر بأحدهم، أو تعب من شيء، أو من سفر، أو من حمل، يردد «شي للّه يا شيخ رسلان، يا حامي بر الشام». كانت المحلة الكائنة شمالي الجامع العمري الكبير، أي خلف مبنى المجلس البلدي الحالي لبيروت، تعرف بمحلة الشيخ رسلان, وكان من هؤلاء آل السبليني وتعباني والفاخوري والقرقوطي، وكان فيها بيت الشيخ علي الفاخوري والد المفتي الشيخ عبد الباسط الفاخوري. وبيت المفتي الشيخ أحمد الأغر وغيرهم.

والشيخ رسلان أو أرسلان، هو أرسلان بن يعقوب بن عبد الله بن عبد الرحمن الجعبري الدمشقي. من أكابر مشايخ الشام وأعيانها العارفين الصالحين. صاحب أنفاس صادقة وكرامات خارقة. وأرسلان معناه بالتركية أسد. عاش أيام الحروب الصليبية، وبقي تأثيره الروحي قروناً عديدة في بلاد الشام كلها (أتينا على ذكره في كتابنا «زوايا بيروت»). وتفيدنا وثائق محكمة بيروت الشرعية أن الشيخ علي الفاخوري (والد المفتي الشيخ عبد الباسط) كان يقيم في محلة الشيخ رسلان (آخر الزاروب الذي يحمل اسم رسلان أيضاً) في بيت كبير كان البيارتة يستعيرونه لإقامة أفراح أولادهم كما ذكر الشيخ عبد القادر قباني. نشير الى انه ورد ذكر بعض الأبواب الداخلية لمحلات وأزقة بيروت القديمة. وذلك كأحد الاحتياطات الأمنية (إضافة الى أبواب المدينة الخارجية). فكان لزاروب الشيخ رسلان باب أيضاً (كما ورد في وقف صالح سعادة). وكما تفيدنا وثيقة مؤرخة في شهر شعبان سنة 1279هـ/ 1863م والتي باع بموجبها سليم ابن الشيخ محمد الميقاتي دكاناً واقعــــــاً «تجاه باب زاروب الشيخ رسلان في محلة الفشخة...». ومن ذكريات والدي رحمه الله حول ضيق زاروب الشيخ رسلان ان جدّته لأبيه الحاجة صفية بنت الشيخ محمد الفاخوري عندما كانت ترغب بالسفر (بالانتقال) الى محلة الأوزاعي صيفاً وكانت وسيلة النقل الجمال، فلم يكن باستطاعة الجمل الدخول في الزاروب الى بيتها. فكان يقف عند باب الزاروب ويتم حمل الأغراض والأمتعة إليه.

زواريب مختلفة (تعباني)

ترد في الوثائق أسماء لزواريب مختلفة منها زاروب العيتاني في محلة الزيدانية وزاروب حمندي (المجذوب) وفيه دار أبي علي قزموز الجرن. وزاروب العجان وزاروب المواسيري وزاروب العراوي قرب القيسارية القديمة وزاروب بني تعباني المتفرع من زواريب الشيخ رسلان؟ وتفيدنا الوثيقة المؤرخة في الثامن من شهر رجب الفرد سنة 1291هـ/1874م بان «علي حسن الكوش باع الى عبد الكريم الظريف بيتاً في الدار المعروفة ببني تعبانه الكائن في زقاق ومحلة الشيخ رسلان ويحد البيت قبلة ملك ناصر تعبانه وورثة أخيه سليم...» (يذكر أن بعض الكتّاب أخطأ في قراءة الشهرة تعبانة فاعتبرها قباني. كما أوضحنا في كتابنا: «البيارتة حكايات أمثالهم ووقائع أيامهم» نقلا عن نبيه طيارة ان جدته لأمه من أسرة رمضان وكانت مريضة تردد دوما «تعبانة تعبانة» ص. 700) علماً بأننا عرفنا ذلك لأن والدة الأديب الراحل عمر فاخوري كانت عائشة تعبانة وقد تعرّف عليها والده عبد الرحمن الذي كانت عائلته تقيم أيضاً في زاروب الشيخ رسلان. كما تزوج حسن فاخوري (شقيق عبد الرحمن) من أسماء سبليني التي كانت عائلتها تقيم أيضاً في الزاروب المذكور وكانت عائلتها تملك معصرة السبليني. وكان محمد ناصر تعباني من تجار بيروت وأحد مريدي الشيخ عمر اليافي وقد أرسل له هذا الأخير عدة قصائد منها قوله:

حبيب القلب أضحى فيه حاضر

وعيني عينه واللحظ ناظرْ

ينادمني بغيب القلب مني

بباطنه ولي بالقرب ظاهر

بمرآتي أراه إذ يراني

أسامره بما أمسى يسامر

إذا كنا كذلك باقتراب

فلم نحتج لكتب أو دفاتر

زواريب الحرامية

كانت تتردد على الألسنة كلمة زاروب الحرامية، كان أحدها الى الشرق من جدار مقبرة الباشورة في محلة الخندق الغميق. ذكرت صحيفة بيروت سنة 1887م ان في الخندق زمرة من أهل البطالة تراقب المارة ليلا لتسلبها نقودها. وذكرت صحيفة «ثمرات الفنون» سنة 1900م ان لجنة إصلاح الطرق ستقوم بتسوية طريق زاروب الحرامية في طريق النهر من بيت بسترس وثابت وفرنيني الى طريق طاسو, وذكر إبراهيم الصيداني في كتابه «راس النبع ذاكرة الجغرافية والتاريخ» وجود زاروبين للحرامية في تلك المحلة.

 * مؤرخ