كان لبطرس بن فضول ابن الخوري بطرس داغر دوره المشرّف في تاريخ بيروت سواء بسرعة استدراكه، كرئيس للدائرة الشرقية لبلدية بيروت، جائحة التيفوئيد التي انتشرت في رأس بيروت سنة 1910م أو لمعارضته امتيازات الشركات الأجنبية ورفض التمديد لها كشركة الماء, أم لجهة أعمال الخير التي قام بها والأوقاف التي حبسها للفقراء فضلا عن تبرّعه بمائة ليرة ذهبية لمدارس المقاصد للبنات.
أعمال البرّ ووقف العقارات والنقود
في 27 شوال 1325 هـ/ 1907م عقد مجلس شرعي في الدار الجارية في بيت بطرس داغر في محلة رأس النبع برئاسة الشيخ عبد القادر النحاس (ابن نقيب الأشراف الشيخ عبد الرحمن النحاس) وحضور خليل قلاووز مختار المحلة وانطوان بن أسعد عاصي من معتبري المحلة. وحضر في المجلس بطرس داغر وقرّر انه لما كان قبلا قد وقف عقارات بموجب حجة شرعية بتاريخ 27 شوال 1323هـ/ 1906م وانه شرط في وقفه عشرة شروط: (1) وهي أن يكون له الحق بالزيادة والنقصان والادخال والإخراج والاعطاء والحرمان والابدال والاستبدال والتغيير والتبديل وانه اشترى من غلّة هذا الوقف عقاراً آخر بموجب حجة مؤرخة في 6 رجب 1324هـ وزاد في بناء للوقف بموجب شروطه المذكورة فإن ما أحدثه أو ما يحدثه غيره في الوقف من البناء والغرس يكون للوقف وأن يكون له ولغيره من المتولّين بعده شراء عقارات من غلة الوقف للوقف... كما قرّر انه أخرج باسيل ابن شقيقه نقولا وأخرج نسله من الوقف وأضاف نصيبه الى نصيب بولس (شقيق بطرس). ربطا صورة الوثيقة(2).
وفي 27 شوال 1325 هـ/ 1907م عقد مجلس شرعي في بيت بطرس داغر في محلة راس النبع برئاسة الشيخ عبد القادر النحاس بحضور خليل قلاووز مختار المحلة وحضر في هذا المجلس بطرس بن فضول ابن الخوري بطرس داغر البيروتي العثماني (المعروف شخصه)، وقرّر بمواجهة جرجي بن فارس بن مهنا الجريديني الناظر على الوقف لأجل تسجيله «اني قد وقفت وحبست مبلغ عشرين ألف ليرة عثمانية عينا (ذهبية طبعا) مفرزة من أطيب مالي لأجل ادانتها بطريق المعاملة الشرعية بإلزام ربح سنوي لا يتجاوز المعدل الشرعي وقفاً صحيحا على نفسي ومن بعدي على من يكون لي من الأولاد الذكور فان لم يكن لي ولد ذكر ولا نسل ذكر يكون وقفا مصروفا ريعه على شقيقي بولس وشقيقتي ظريفة حسب الفريضة الشرعية ومن مات عاد نصيبه على الأحياء من إلياس وفضل الله وفيليب أولاد شقيقي نقولا ومن بعدهم لمن يكون لهم من الذكور ثم على الأقرب إليّ بالنسب ثم على فقراء طائفة الروم الأرثوذكس في بيروت ثم على عموم الفقراء من أية طائفة كانت في أي بلد كان...» ويتبع وقف النقود «وقف قطعة أرض في خراج قرية الحدث في محلة الخناق في جبل لبنان».
وجعل التولية له ومن بعده لشقيقه بولس بالاشتراك مع إلياس وفضل الله وفيليب أولاد نقولا، وانه إذا آل الوقف الى فقراء الروم فتكون التولية والنظر لرئيس وأعضاء مجلس مطرانية الطائفة في بيروت ثم من يخلفهم، وإذا آل الوقف الى عموم الفقراء فللحاكم الشرعي في بيروت مع مفتيها واحدا بعد واحد. وشرط الشروط العشرة لنفسه وان له استبدال نقود الوقف بعقارات وأن يصير إستيفاء نقود الوقف بعد وفاته ووضعها في ثلاثة من المصارف الأمينة الشهيرة في كل مصرف الثلث بأسماء المتولين لأجل إدانتها برهن قوي أو كفيل مليء بربح سنوي بالمعدل الشرعي وأن يوفى من ريع الوقف ما على الواقف من دين وعلى حق المتولين باستبدال نقود الوقف بعقارات. ربطا صورة الوثيقة(3).
إثبات صحة الوقف ولزومه والمنازعة في ذلك
وفي ختام الوثيقة ان الواقف سلّم الناظر جرجي الجريديني النقود والأرض ثم عنّ للواقف الرجوع عن وقفه متعللا بأنه غير صحيح ثم انه غير لازم عند من لا يرى الصحة واللزوم فعارضه الناظر بصحته ولزومه متمسّكا ممن يرى الصحة واللزوم وترافعا وتخاصما في ذلك وطلبا الحكم فعند ذلك حُكم بصحة وقف النقود وبلزومه وصحة ولزوم ما تبعه من عقار ومنع الواقف من دعواه الرجوع(4)..
تبرّع لجمعية المقاصد لمدارس البنات
خصّص بطرس داغر جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية في بيروت بمبلغ مائة ليرة كما يتبيّن من البيانات التي كانت تصدرها الجمعية(5). يذكر ان صحيفة «الاتحاد العثماني» ذكرت في عددها رقم 645 الصادر بتاريخ 19/10/1919 ان بطرس داغر رئيس البلدية الشرقية تبرّع بمائة ليرة عثمانية لجمعية المقاصد «لمدارس الإناث»(6).
تقسيم البلدية إلى دائرتين شرقية وغربية
يقول سليم علي سلام في مذكراته ص.117/118 «بعد أن أتممت انتخاب البلدية وتقديم النتيجة للولاية صدر أمر الوالي بقسم الدائرة البلدية الى دائرتين: الواحدة شرقية والثانية غربية. وعيّن رسميا للشرقية بطرس أفندي داغر وللغربية منح أفندي رمضان...».
ويضيف «ولم يسلّم بطرس أفندي داغر رئاسة البلدية الشرقية حتى أقام الدعوى على شركة ماء بيروت يطلب فسخ امتيازها الذي كان تجدد لمدة أربعين سنة ثانية بزمن الوالي رشيد باشا ورئاسة عبد القادر قباني (للبلدية) وحجته أي بطرس داغر ان تجديد المدة لم يكن قانونيا لأنه بموجب امتيازها انه بعد مضي مدتها الأولى التي هي الـ 40 سنة تصبح جميع اوايل (المعدات) الشركة ملكا للبلدية، وانه لا يجوز تجديد المدة إلا بقرار البلدية صاحبة الحق. والقرار الذي اتخذ بتجديد مدتها يومئذ كان رفعه عبد القادر أفندي قباني للولاية وبه يقول «تقرر بالأغلبية وحيث كان قرار الأقلية (التي سميت أغلبية) غير نافذ لذلك كان التجديد غير قانوني»(7).
يذكر ان تقسيم البلدية الى دائرتين لم يستمر طويلاً فقد قرّر مجلس الإدارة في تشرين الأول 1910 إعادة توحيدها واقترع على الرئاسة فكانت لمنيح رمضان، أما أسباب التقسيم وأسباب إلغائه فهي بحاجة الى دراسة على حدة ولا سيما بيان ما إذا كان إلغاء رئاسة بطرس داغر الأرثوذكسي قد عوّض عنه فيما بعد بتخصيص مركز محافظ بيروت للأرثوذكس؟
محضر جلسة دائرة بلدية بيروت الشرقية
كنا أول من ننشر لأول مرة خلاصة المحضر الباقي من محاضر الدائرة الشرقية التي عقدت في 9 شباط 1910 وقد جاء فيه «انعقدت جلسة برئاسة بطرس داغر رئيس الدائرة الشرقية وبحضور الأعضاء حسن قرنفل وجرجي رزق الله ونصري ارقش وسعيد أبو شهلا وأمين كفوري من الدائرة الغربية وعثمان النقيب وعبد الحفيظ طبارة من الدائرة الشرقية، وفي الجلسة تُلي مكتوب قنصل أميركا المؤرخ في 8 شباط 1910 المتضمن وجود مرض الحمى التيفوئيدية في مكتب الأميركان الكائن في محلة رأس بيروت (الجامعة الأميركية) وفي بعض بيوت المحلة المذكورة بسبب وضع الزبالة والأقذار في البساتين. وتُلي تقرير طبيب البلدية د. حبيب شحلاوي وتبيّن منه ان انتشار المرض في جهات رأس بيروت دون سواها ناجم عن أكل الخضر الواردة من تلك الجهات وأخصّها الخسّ، وان بعض التلامذة والأهالي الذين يقصدون بساتين رأس بيروت لأجل النزهة يتناولون الخسّ دون غسله لعدم وجود ماء وان وجدوا ماء فهو ماء الناعورة القذرة.
فقرّر المجلس منع بيع الخس والفجل والبقدونس والنعنع والكزبرة وما شاكلها التي تؤكل بدون طبخ، والتنبيه على معلمي الخضر ليمتنعوا عن بيع تلك الأشياء، وكلّف أطباء البلدية بالكشف على حواويز الماء (أي أحواض الولاية والدحديلة والساعاتية وغيرها).
تقديم الدعوى ضد شركة الماء ونتيجتها
خلافا لما جاء في مذكرات سليم سلام من ان بطرس داغر تقدّم بالدعوى على شركة الماء فقد حصلنا من أرشيف إسطنبول على صورة القرار الذي صدر بنتيجة الدعوى ويتبيّن منه ان الامتياز انتهى في 5 جمادى الأولى 1327هـ أي أيار 1909م وان الدعوى قدّمت في 6 حزيران 1325 (مالية) أي 1909م مما يبرر قول سليم سلام بمسارعة بطرس داغر لإقامة الدعوى. بينما يتبيّن من الحكم ان الدعوى قدّمت من رئيسي البلدية بطرس داغر ومنيح رمضان ما يمكن القول بأن بطرس داغر سارع الى تقرير تقديم الدعوى ووافق منيح رمضان فقدّمت الدعوى باسميهما. مع الإشارة الى ان الحكم صدر عن محكمة بداية الحقوق في بيروت برئاسة القاضي مصباح محرم (أحد مؤسسي جمعية المقاصد وأستاذ الحقوق في دمشق) وقد أصدر الحكم في 8 ربيع الأول 1328هـ و6 مارت 1326 مالية وقضى بإلزام شركة الماء بتسليم الأدوات للبلدية، كما قضى بحق البلدية ببدل أجر المعدات حتى تاريخ التسليم.
* مؤرخ
هوامش
1- الشروط العشرة: هذه الشروط أجازها المذهب الحنفي المعمول به في المحاكم منذ الدولة العثمانية وتذكرها كتب الأوقاف بهذا العنوان:
الزيادة والنقصان: زيادة في أحد الأنصبة ونقصانها.
الإدخال والإخراج: جعل من ليس مستحقا في الوقف من المستحقين وإخراج البعض منهم.
الإعطاء والحرمان: ان يؤثر بعض المستحقين بالعطاء مدة أو دائما وحرمان البعض مدة أو دائما.
الإبدال والاستبدال: الابدال إخراج الموقوف وبيعه والاستبدال شراء للوقف بدله.
التغيير والتبديل: تغيير في مصارف الوقف بجعلها راتب بدل حصة على بعض المستحقين دون الباقين والتبديل جعل الموقوف للاستثمار بدل الإسكان مثلا.
ومن الفقهاء من يضيف التفضيل والتخصيص: التفضيل بزيادة نصيب البعض من المستحقين والتخصيص تمييز البعض بشيء لم يمنح لآخر.
2- سجلت هذه الوثيقة في المحكمة الشرعية في بيروت بالسجل 1324 -1326هـ برقم 309.
3- سجلت هذه الوثيقة في محكمة بيروت الشرعية في السجل 1324-1326هـ برقم 310.
4- الرجوع عن الوقف ترد في وثائق الأوقاف عبارة «وعنّ للواقف» الرجوع في وقفه وهو من الأصول المتبعة في ضرورة تسجيل الوقف لدى القاضي ولزومه. لان الواقف قد يرجع في وقفه طالما لم يثبت القاضي الوقف متذرّعاً بقول الإمام أبي حنيفة، بينما يدافع ناظر الوقف بصحة الوقف ولزومه ولا رجوع فيه متذرّعاً بقول صاحبي أبي حنيفة أبو يوسف ومحمد بن الحسن الشيباني وهو الرأي المعمول به في المحاكم الشرعية.
وغاية المنازعة الظاهرة التوصل الى استصدار قرار قضائي بصحة الوقف ولزومه وتسجيله لما للحكم من قوة القضية المحكوم بها تجاه الجميع ولم يعد الوقف استدعاء من الواقف..
5- مذكرات سليم علي سلام ص.124.
6- تخصيص بطرس داغر هذا التبرّع لمدارس الإناث يدلُّ على اهتمام المتبرّع بتعليم المرأة ودورها في المجتمع.
7- مذكرات سليم علي سلام ص.117/118.