بيروت - لبنان

اخر الأخبار

18 كانون الأول 2021 12:00ص أوراق بيروتية (45): محمد عبده للتدريس والقاياتي للسياحة والسفر واللقاني للهو والسهر

حجم الخط
اثر فشل حركة التمرد ضد الخديوي توفيق, التي قام بها سنة 1882 الجيش المصري بقيادة أحمد عرابي باشا بتأييد من المتنورين, احتلّ الإنكليز مصر وألقي القبض على زعماء التمرد من الضباط وعلماء الدين وغيرهم. وبنتيجة المحاكمة نفي عرابي باشا والشاعر محمود سامي البارودي الى جزيرة سيلان، ونفي عدد كبير الى بيروت وكان منهم الشيخ محمد عبده بن حسين خير الله المصري الذي حلَّ ضيفا في منزول آل حماده أبناء عبد الفتاح آغا حمادة في زقاق البلاط. وكان الشيخ محمد عبد الجواد القاياتي من المنفيين الى بيروت وقد ذكر أسماءهم في كتابه «نفحة البشام في رحلة الشام» (ص56) فكان منهم إبراهيم اللقاني.

مجلس محمد عبده  في دار آل حمادة

كانت دار آل حمادة أحد معالم بيروت، نزل فيها سنة 1872م والي سورية صبحي باشا، وحلّ فيها سنة 1875م موسى باشا أمين الصرّة (وهي المال الذي كان السلطان يرسله كل سنة الى الأراضي المقدسة)، ونزل فيها متصرف البلقاء سنة 1882م وحلّ فيها سنة 1881م عمّ شاه إيران ووالي سورية ناشد باشا سنة 1885م. وفي منزول آل حمادة كان الإمام محمد عبده يستقبل الزائرين من جميع الطوائف والنحل، ذكر الأمير شكيب أرسلان انه «كان يجتمع في حضرة الشيخ محمد عبده علماء السنّة ومجتهدو الشيعة وعقّال الدروز الى جانب أساقفة النصارى وأحبارهم إضافة الى أعيان البلدة وفضلائها كالشيخ عبد القادر قباني ومحمد اللبابيدي». وفي منزول بيت حماده تعرّف محمد عبده الى رضى كريمة سعد الدين حمادة وتزوجها واستقل في منزل مجاور لدور آل حمادة وآل القباني. وكان يسمر كل ليلة في دار الحاج محيي الدين حمادة وكان يقصده كثيرون لسماع أحاديثه. وكانت له مشاركات في النشاطات الثقافية. درّس الفقه والتوحيد في المدرسة السلطانية، كما درس شرح مجلة الأحكام العدلية وكتب وألّف عدة رسائل في العلم والتربية وحضر احتفال آخر السنة في المدرسة الكلية (الجامعة الأميركية) ودعي الى حفلة آخر السنة في مدرسة الحكمة، وقال عنه أستاذ العربية سعيد الشرتوني: هذا الرجل إذا تكلم خرج النور من فمه.

وجد بعض البيارتة في حديث الشيخ محمد عبده لغة جديدة وأسلوباً يختلف عمّا ألفوه، وسمعوا آراء أساسها العلم وأسلوبها المنطق وهاديها العقل إضافة الى مباحث في العقائد والأديان. قلت ان بعض البيارتة لأن الرجل كان متهما بالمشاركة بتمرّد عرابي وكان منفيا من مصر وكانت له آراء تختلف عن الآراء والاتجاهات السائدة في الدولة العثمانية ما شكّل حذرا لدى علماء الدين المسلمين في بيروت الذين كانوا يخالفونه الرأي فآثروا الابتعاد عن مجلسه، ولم نجد في الكتاب المفصّل للشيخ محمد عبد الجواد القاياتي أي ذكر لتواصل الشيخ محمد عبده مع مفتي بيروت في حينه الشيخ عبد الباسط الفاخوري ولا مع غيره من الشيوخ كالشيخ يوسف النبهاني رئيس محكمة الحقوق في بيروت والشيخ عبد الرحمن الحوت والشيخ عبد الله جمال الدين والشيخ قاسم أبو الحسن الكستي وغيرهم.

درّس الشيخ محمد عبده في المدرسة السلطانية التي أسستها شعبة المعارف الأهلية التي حلّت محل جمعية المقاصد. وكان اثنين ممن كان لهما شأن فيما بعد يحضران درس الشيخ هما: الشيخ أحمد عباس الأزهري وعبد الباسط فتح الله. كتب الشيخ محمد عبده في بيروت عدّة رسائل في العلم والتربية وشرح نهج البلاغة ومقامات الهمذاني، وقيل ان رسالته كانت تتلخص في أمرين إثنين: الدعوة الى تحرير الفكر من قيد التقليد ثم التمييز بين ما للحكومة من حق الطاعة على الشعب وما للشعب من حق العدالة على الحكومة. إلا أن أسلوب الشيخ محمد عبده لم يلقَ ترحيباً من بعض أهل بيروت وعلمائها وقد جهر البعض بعداوتهم للشيخ ونسبوا إليه حدّة المزاج لا سيما عندما يغلب عليه الانفعال. ويذكر ان مصاهرته لآل حمادة دفعته الى المشاركة في المنافسات والمخاصمات السياسية البيروتية المحلية والدفاع عنهم بفصاحته وقوة حجته، فكان يتحمّل بسبب هذه النصرة لهم شطراً من أصر العداوة، فكانوا يقولون: ما للشيخ والتدخّل في هذه الأمور التي لا تعنينا إلا نحن أهل بيروت وكان الأولى أن يبقى فوق هذه الأحزاب.

روى المرحوم توفيق فاخوري الطالب في المدرسة السلطانية (كلية المقاصد للبنات حالياً) ان الإمام محمد عبده دعي يوماً لوليمة في المدرسة السلطانية، وجاءها مرتدياً جبّة قديمة فلم يأذن له الحراس بالدخول. فذهب وارتدى جبّة جديدة وعاد فاستقبلوه وأدخلوه ورحّبوا به. فكان أثناء الطعام يـــــــردّد: لولاك يا كمّي ما أكلت يا تمّي.

محمد عبد الجواد القاياتي للسياحة والسفر

فيما كان الشيخ محمد عبده يعقد مجالس العلم والفقه، كان عبد الجواد القاياتي يجول في بلاد الشام ولذلك سمّى كتابه «نفحة البشام في رحلة الشام»، وكان أديبا وشاعرا ذكر في كتابه الكثير من عائلات بيروت وسورية، فوصف عاداتها وتقاليدها وترجم لأشهر علمائها ولا سيما بيروت وطرابلس ودمشق والقدس الشريف. وبين رحلة وأخرى، كان القاياتي ينشغل بمطالعة وشرح بعض الكتب كتفسير الجلالين وشرح ابن قاسم على أبي شجاع وشرح الكفراوي على الاجرومية، وكانت له مطارحات شعرية مع بعض البيارتة وعلى رأسهم الشيخ قاسم أبي الحسن الكستي.

إبراهيم اللقاني للهو والسهر

كان إبراهيم اللقاني من الضباط المنفيين الى بيروت، وقد رويت عنه عدة طرائف، فحين كان محمد عبده مشغولا بدرسه وكان عبد الجواد القاياتي متنقلا في رحلاته، كان اللقاني يمضي أوقاته باللهو والسهر. ومما حصل معه انه استأجر عربة توصله الى جنينة رستم باشا وترجعه الى بيروت ثانية ودفع الأجرة بكاملها وعلى الرجوع إليه قبل الغروب. ومضى الوقت ولم يحضر العربجي، فنزل اللقاني الى بيروت ماشيا وحكى ما جرى له بمنزل محيي الدين حمادة رئيس البلدية، وحدث في الليلة الثانية ان أخرج محيي الدين حمادة من عبّه ريالا مجيديا وأعطاه لإبراهيم وقال له: خذْ حقك حاكمنا الرجل، وأخذنا منه الأجرة والجزاء معا. ذكرت جريدة السياسة الأسبوعية لصاحبها محمد حسين هيكل في عددها 13 تاريخ 21/5/1927 ان إبراهيم اللقاني كان منفيا مع الشيخ محمد عبده في الشام وكان يمضي بعض أمسياته في جماعة تستمع الى مغنية بيافا يهودية اسمها ليلى، وكانت الجماعة كلما أتمّت دورا ينقدونها ذهبا عينا جنيهات تركية ولم تكن حال المنفي اللقاني تسمح بأن يجاري الجماعة في ذلك فكان ينقد المغنية أبياتا من الشعر منها:

ما الذي رصّع ليلى

وهي عن الحلي غنيّه

لا تظنوا ذاك ماسا

تلك الباب ذكيّه 

كما قال:

خبروني يا قوم فالصدق أولى

كيف سميتم الصبيحة ليلى

ألم تنظروا إذا هي لاحت

شمّر الليل للهريبة ذيلا

نصوحي بك والنبهاني ورشيد رضا

ذكر القاياتي ان الوالي عبد الخالق نصوحي بك متصرف بيروت (ثم واليها) كان من أهل الأدب والدراية في السياسة يتكلم العربية خالصة وانه شرع في جمع كتاب يشتمل على غرر القصائد (ونصوحي بك هو الذي وقف قطعة أرض في المرفأ لإنشاء كلية شرعية ما عرف بوقف العلماء) وان نصوحي بك حضر احتفال المدرسة السلطانية وأعجب بما تلي فيها من مقالات وخطب من الشيخ محمد عبده.

وإذا كان الشيء بالذات يذكر وان لم يكن من جنسه، فقد ذكرت السياسة الأسبوعية المذكورة ان الشيخ رشيد رضا دخل في صباه على رئيس محكمة الحقوق في بيروت الشيخ يوسف النبهاني وكان نصوحي بك عنده وكان الشيخ رشيد متبرّجا مما لا يتفق مع ما اصطلحت عليه العامة من وقار فوبّخه الوالي من مظاهر لا تليق بمن يرشد الناس وأنشد النبهاني عندها:

وأما رشيد ذو المنار فانه

أكثرهم عقلا وأقلّهم شرّا

أتاني بيروت بشرخ شبابه 

بمقلته السودا ووجنته الحمرا

وكان ولي الأمر عندي جالسا

نصوحي جزاه الله عن نصحه خيرا

فوبّخه مستقبحا ما أتى به

وغاب ولم يزدد شعورا ولا شعرا

لطيفة من مجلس محمد عبده

وكان الشيخ محمد عبده في مجالسه يتفكّه أحياناً ويروي لطائف منها «مرَّ رجل فارسي بآخر كردي جالساً الى جدار وبجواره جراب ممتلئ، وأمامه كلب مريض يتلوّى ويتضوّر، والكردي ينظر الى الكلب العليل الذي يعوي عواء النزع، بألم ظاهر ويقلب فيه أجفانه، بلوعة ظاهرة ويشفق عليه بألفاظ رقيقة، فاستوقف هذا المنظر العجيب ذلك الفارسي فحيّا الكردي في رفق وسأله عن الكلب ماذا تكون حاله؟

فأجاب الكردي: إنه كما ترى كلب يموت.

الفارسي: وممَّ يموت يا سيدي؟

الكردي: من الجوع...

الفارسي: ولمن يكون هذا الكلب المسكين؟

الكردي: هو بلا ريب كلبي...

الفارسي: وما هذا الجراب بجوارك يا سيدي؟

الكردي: هو جرابي الذي أنقل فيه أمتعتي.

الفارسي: أراه منتفخاً فما به؟

الكردي: مآكل ومطاعم وأقوات وزاد وذخيرة. 

الفارسي: الحمد للّه. إذا كان الكلب كلبك والجراب بما فيه ملكك، وأنت مشفق على هذا الحيوان الأعجم الذي يجود بنفسه جوعاً، ولديك ما يسدّ رمقه فلماذا لا تعطيه فتحييه؟

الكردي: لم تصل المودّة بيننا الى هذا الحد».

وقيل إن الشيخ كان يستدرج السامع ليستنتج جمال المعنى وحسن تطبيقه على بعض أمم الشرق التي تجود بالأقوال الفيّاضة والعواطف المتدفقة وتضنّ بالمال والفِعَال، فهم ذو دين ووطنية يملآن القلوب ولكنها لا تصل الى الجيوب.

فما أشبه الليلة بالبارحة.

* مؤرخ