بيروت - لبنان

اخر الأخبار

4 كانون الثاني 2022 12:00ص أوراق بيروتية (47):مسْطبة بيدمر لبناء «العَمَارة» في المصيطبة

حجم الخط
منذ أن فتحت بيروت في عهد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه انطلق ركوب العرب للبحر بدءا من الاسطول العربي بقيادة معاوية بن أبي سفيان من بيروت برفقة الصحابية أم حرام بنت ملحان باتجاه قبرص. ومنذ ذلك التاريخ كانت بيروت ولا تزال تتعرّض لاعتداءات مختلف الأساطيل الجنوية فالصليبية فاليونانية والإيطالية، وقد ذكر التاريخ الأضرار البشرية والمادية التي لحقت بالبيارتة، كما ذكر بطولاتهم في الذود عن مدينتهم وأعراضهم. ما جعل بيروت بالضرورة قاعدة لإنطلاق السفن الحربية المقاتلة والمساعدة، ودفع المسؤولين الى التفكير في إنشاء مصنع للسفن في بيروت.

اعتداءات مستمرة على بيروت

حفظ لنا التاريخ بعضاً من النكبات والاعتداءات على بيروت، والتي حصلت في السنوات 1299 و1334 و1382 و1403 و1520.

روى مؤرخ بيروت صالح بن يحيى ان مراكب كثيرة للفرنج فيها جماعة من المقاتلة وصلت من جنوى الى بيروت في كل منها نحو سبعمائة وقصدوا الطلوع من المراكب الى البر، فلما قربوا من البر أرسل الله عليهم ريحاً قوية أغرقت بعض السفن وعاد من سَلم منهم على أسوأ حال. وأفادنا صالح بن يحيى على حملة ثانية من حملات جنوى المتكررة على بيروت، فيذكر ان السفن الجنوية نزلت بيروت يوم عيد الأضحى سنة 734/1333م يوم كان متولي بيروت عز الدين البيسري من قبل تنكز نائب الشام فقاتلهم البيارتة قتالا شديدا لمدة يومين إلا ان الجنويين تمكّنوا من دخول الميناء واستولوا على المراكب وانزلوا الأعلام السلطانية وقتل العديد من الرجال، وقد أعاد صالح بن يحيى الهزيمة الى تقاعس أمراء الغرب وتركمان كسروان، فتمّ استدعاؤهم الى دمشق ومعاقبتهم.

روى ابن طولون الدمشقي غزوة بيروت في شوال 826هـ/ 1520م عندما طلع الافرنج في زي الاروام من البحر عند عين البقر في بيروت لأخذ ميناء بيروت في تسعة مراكب فقاتلهم مسلمو بيروت فقتل منهم مائة شخص ومن الفرنجة أربعمائة وهرب الباقون. وفي شهر ذي القعدة وصلت الى دمشق خمسة... من رؤوس قتلى الافرنج فُرّقت على الحارات. (ذكرنا تفاصيل العدوان في سلسلة «أيام بيروتية»).

مسلمون ونصارى على مركب من جل الديب إلى عكا

روى عبد العزيز سيد الأهل في كتابه «أيام صلاح الدين» عن ميزة أهل بيروت في بطولة الجهاد فنقل عن النوادر السلطانية ان بيروت أرسلت مركبا عظيما شحنته بزهاء ستمائة وخمسين رجلا من رجالها تزيّوا بزيّ الفرنج وسيّرته الى عكا إلا ان العدو فطن الى المركب عند دنوه من عكا فحاصره أربعين مركبا وقذفته بالنيران، فلم ييأس رجال بيروت ولا ذهلوا وقتلوا العديد من عدوهم، وعندما أوشكت المراكب على النيل من مركب بيروت قام قائده «يعقوب الحلبي» بإغراق المركب. ويتقاطع هذا الخبر مع ما ذكره الأستاذان أحمد العبادي والسيد سالم في كتابهما «تاريخ البحرية الإسلامية في مصر والشام»: «ان بيروت كانت قاعدة الاسطول الشامي وكان يوجد على سواحلها في مكان يسمّى الزيب أو الذئب (هو اليوم جلّ الديب) طائفة من المسلمين يجهزون السفن الداخلة الى عكا ويقطعون الطرق على الفرنج، وان متولي بيروت جهّز بطسة (مركب كبير الحجم يتألف من عدة طوابق ومزوّد بعدد كبير من القلوع يستعمل لنقل الزاد وجموع كبيرة من المحاربين) ورتب فيها رجالاً مسلمون ونصارى من أهل بيروت وانطلقت حتى دخلت عكا.

ديوان العمائر

العمارة بلغة البحارة تعني الأسطول. فالحي القريب من منزل آل سلام في المصيطبة كان ولا يزال حتى اليوم معروفاً بإسم «حي العمارة»، وموقع حي العمارة بعيد عن البحر وقريب منه معا، ولكنه مرتفع وسريع الانحدار باتجاه ساحل البحر، ويمكن لمن يقف في أعلى أوتوستراد سليم سلام ويتطلّع شمالا باتجاه البحر، يدرك أهمية اختيار هذا الموقع لبناء المراكب وذلك، لسهولة إنزالها، وجرّها إلى البحر (كما فعل السلطان محمد الفاتح عندما جرّ سفنه الى الجبل وأنزلها الى البحر وتمّ فتح القسطنطينية).

ويبدو أن هذا الانحدار أوحى للعامة بالمثل الشعبي الذي يقول: التيس بيذبحوه في المصيطبة بيصفي دمه بحي أبو موت. جاء في كتاب «صبح الأعشى في صناعة الإنشاء» للقلقشندي «ان من ضمن النظر في الدواوين» الخدمة في ديوان الجهاد ويقال له ديوان العمائر وفيه إنشاء المراكب للأسطول وحمل الغلال السلطانية والأحطاب وغيرها وفيه ينفق على رؤساء المراكب ورجالها». ولم يعثر على صيغة الجمع هذه (العمائر) في كتب اللغة ولعلّه من الألفاظ التي سارت على ألسنة العامة، يقول البستاني «العَمَارة الطائفة من السفن الحربية تكون معا وهي من كلام المولدين».

وزاد اهتمام العرب بالأسطول في عهد الفاطميين فقد خصصوا له ديوانا عرف بديوان الجهاد أو ديوان العمائر، وكان مقرّه في دار صناعة الانشاء في مصر. وكان لكل مركب رئيس ونواتي (جمع نوتي وهو البحار). وكان ملك قبرص بطرس دو لوزينيان قد عظمت قوته حتى انه غزا الإسكندرية سنة 1365م ما دعا أهالي الساحل للاحتراز والحذر ليلا ونهارا وما أوجد مشقة كبيرة، ما دعا الأمير يلبغا الى الشروع في عمارة شواني وحمالات في بيروت، وأرسل بيدمر الخوارزمي الى بيروت مع الجنود والصنّاع لتعمير الكثير منها وجعل إقامة العسكر بالبدل.

ولما حضر بيدمر الى بيروت حضر لديه تركمان كسروان ووعدوه بألف رجل للدخول الى قبرص، فأخذ رجالا منهم الى مصر للتدريب ومنحهم اقطاعات إلا انه عاد ومزّق الرسائل التي أعطيت لهم وأبقى أمراء الغرب على اقطاعاتهم.

كان رئيس البحرية أو رئيس الاسطول هو الذي يقلع بالغزاة وصحبته فانوس تهتدي به المراكب الأخرى. وكان نوتية الاسطول موضع احترام لدى العامة يقال لهم «المجاهدون والغزاة لأعداء الله» ويتبرّكون بدعائهم. يذكر ان العدد الأكبر من البحرية كانوا مغاربة اشتهروا بمهاراتهم بالملاحة البحرية وكان يلبغا يعتبرهم فرسان البحر.

يذكر ان الشواني (جمع شينية) كانت من أهم قطع الاسطول وتعرف بالأغربة أو الغربان لأنها كانت تطلى بالقار ولها قلوع بيضاء فتشبه الغربان. نقل المقري في «نفح الطيب من غصن الاندلس الرطيب» قول ابن الابار الذي عبّر عن ذلك التشابه بينها وبين الغربان فقال:

يا حبذا من بنات الماء سابحةٌ

تطفو لما شبّ أهل النار تطفئهُ

تُطيرها الريح غرباناً بأجنحةِ الـ

حمائم البيض للأشراك ترزؤه

من كل ادهمَ لا يُلفي به جربٌ

فما لراكبه بالقار يَهنؤه

يدعى غراباً وللفتخاء سرعتهُ

وهو ابن ماءٍ وللشاهين جُؤجُؤه

مسطبة العمارة في المصيطبة

قال صالح بن يحيى في كتابه «تاريخ بيروت» ان الأمير يلبغا العمري أمر سيف الدين بيدمر الخوارزمي نائب دمشق، بالتوجه إلى بيروت، ليعمر من حرجها مراكب كثيرة: حمّالات، وشواني. فحضر بيدمر إلى بيروت سنة 1365م وأحضر معه عدداً كبيراً من الصنّاع من أجل ذلك. وعمّر بيدمر بظاهر بيروت «مسطبة» عرفت به.

ويضيف صالح بن يحيي بأن المراكب كانت تعمل (تبنى) عند المسطبة على بُعد من البحر. وأن العسكر الذين حضروا من الشام، أنزلوا بين البحر والمراكب، حذراً من حضور مراكب عدوّه قد تحضر غفلة وتغرق المراكب الجاري بناؤها. فلما توفي يلبغا توقف العمل في المراكب، ولم ينزل منها إلى البحر سوى حمّالتين كبيرتين، بقيتا في بيروت حتى تلفتا. وكذلك تلفت بقية الشواني. ولم تنزل إلى البحر من المسطبة المذكورة. وأخذت المصيطبة اسمها من تصغير مسطبة بيدمر. واختارها السلاطين والأمراء منزلاً لهم، لارتفاع موقعها، وطيب هوائها. وكان ممن نزلها منهم السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون.

حي المناصفي في حي العمارة

ذكر صالح بن يحيى في «تاريخ بيروت» وكذلك ابن سباط «مسطبة» (بالسين) ووصلت الى البيارتة مصطبة (بالصاد) على طريقتهم بالقلب بين السين والصاد كما فعلوا في عالسور وعصور. والمصطبة كما جاء في «الهادي» للأستاذ عبد الفتاح خطاب «آرامية أو يونانية: المنصة التي يقف عليها الأمراء أو يتخذها التجار لعرض بضائعهم وتستعمل حاليا مكان الجلوس خارج المنزل». اتخذت المصيطبة اسمها من تصغير مسطبة بيدمر المذكورة (صغّروها تحبّباً). وردت المحلة في الوثائق بإسم مزرعة المصيطبة. ويذكر المعمرون ان بيوت آل المناصفي كانت في حي العمارة ومنهم عباس بن علي المناصفي وأحمد مناصفي وعبد القادر المناصفي، وتذكر الوثيقة المؤرخة في الخامس والعشرين من شهر ذي القعدة سنة 1260هـ/ 1844م عبد الحميد بن عبد القادر المعروف بقدور المناصفي (1859-1943م)، كما تذكر الوثيقة المؤرخة في التاسع عشر من شهر جمادى الأولى سنة 1263هـ/1846م ان أولاد عرابي المناصفي محمد ومحي الدين وفاطمة وحنيفة وسعدية يملكون عشرة قراريط ونصف من البستان المشهور بالحاج محمد المناصفي الكائن في مزرعة المصيطبة المشتمل على أغراس توت وبري وفواكه وعمار برج يحتوي على قبوين تعلوهما عليّة.



* مؤرخ