بيروت - لبنان

اخر الأخبار

29 كانون الثاني 2022 12:00ص أوراق بيروتية (50):حُليّ البيروتيات: من البُخنق والنّاطور والكردان إلى مبرومة رأس الحيّة

حجم الخط
لا يزال المخضرمون يذكرون واجهات سوق الصاغة البرّاقة بالألماس والأساور الذهبية المعلّقة التي سال لها لعاب الصبايا، ولا سيما تلك المطعّمة بالألماس الذي كانت أمهاتنا وجداتنا وعماتنا وخالاتنا يصفنها بالبرلنت (بالتركية برلانطة) بالفرنسية brillant، وهو من أجود أنواع الألماس. وكان الصاغة وتجار المجوهرات يتخذون من قيسارية الصاغة الواقعة بملاصقة الجدار القبلي لجامع الأمير منذر (النوفرة) التي بناها الأمير علي الشهابي مكاناً لعملهم وكانت هذه القيسارية محمية من السلطة وعليها حراسة مشدّدة. وكانت سوقهم سابقا في السوق الطويلة قبل أن ينتقلوا الى سوق رعد وهاني. ورد في «سورة فاطر» التحلّي في الجنة بأساور من ذهب فقال الشيخ أحمد الأغر مقتبساً:
لقد فاز أصحاب الإله بقربه
وأمنهم لطفاً من المقت والغضبْ
وأدخلهم جنات عدن بفضله
«يحلّون فيها من أساور من ذهب»

الصاغة والجوهرجية من قيسارية إلى سوق رعد وهاني

شجّع تجميل سوق أياس (حمادة سابقاً) وتحويل ساحة البرج الى منشية عامة على إنشاء أسواق جديدة. فشرع أسعد رعد وبشارة الهاني سنة 1883م في إنشاء سوق جديدة للصاغة والجوهرجية غربي منتزه حديقة البرج تزيد المنتزه زهاءً ويزيد المدينة رونقاً وطلاوة حيث يخترق غربي ساحة البرج حتى كنيسة النورية. فتكون صلة بين ذلك الجانب والأسواق، وينفسح للمصلين وقاصدي المعابد السبيل للوصول ولا يلقون ألف صدمة ولطمة من جرّاء الازدحام. وفي أيلول سنة 1886م أعلن رعد والهاني «قد أجّرنا كثيرين من البازركان دكاكين في سوقنا الكائن غربي حديقة الحميدية وشمالي سوق أبي النصر. وفي غرّة محرم القادم الموافق 29 أيلول 1886م يصير السوق بتمامه بازركان. ولكي يكون ذلك معلوما عند المشترين في جميع الجهات ويشرّفوا السوق المذكور...». وكانت قطعة الأرض التي أقيم عليها السوق مغروسة توتاً فتح إلى الجنوب منها سوق أبي النصر (كما سنبيّن في محله). وكان السيدان رعد وهاني من كبار تجار البلدة، اشتريا الأرض موضوع السوق.

وقد اعتنى أصحاب السوق بتبليطه وترتيبه وجعل على جوانبه أرصفة نظيفة. وفتح في سقوفه نوافذ تنبعث منها أشعة الأنوار. وأقيم فيه النزل المعروف بـ«نزل باريس» المشهور بالإتقان والنظافة وحسن الخدمة وجودة المآكل والمهاودة بالأسعار، فغدا بهجة للناظرين. استأجره منهم جميع الصاغة وتجار المجوهرات الثمينة وعُدّ في حينه من أجمل أسواق البلدة.

الششنة والمهور

إستناداً الى نظام الحرف الذي كان مطبّقاً في بيروت وفي بقية المدن العثمانية، كان يوسف جدي شيخاً للجوهرجية حتى سنة 1892م. وفي سنة 1905م ومحافظة على المواد الذهبية والفضية من السرقة وسوء الاستعمال عهد مجلس إدارة الولاية برئاسة الوالي بإجراء معاملات أخذ «الششنة» بمعرفة الجوهرجيين بشارة جدي وخليل بركات وذلك حسب الأصول والتعامل القديم الجاري بدار السعادة (اسطنبول) والولايات. والششنة أصلاً دمغ عيار الذهب على كل قطعة تباع، وهي بعرف العامة الإيصال الصادر عن البائع الذي يثبت صحة حيازة الشخص لقطعة الذهب التي يريد بيعها. وكثيرا ما كانت الحلي والمجوهرات تشكّل معجّل الصداق. وفي أعراف بيروت أن المهر أو الصداق كان قديماً ألف وخمسمائة قرش يدفع ثلثاها معجلاً والثالث الآخر مؤجلاً. وكان البعض يقدّم مصاغاً تربو قيمته على الصداق مع قماش فاخر، وقد غالى بعضهم بالصداق حدّاً بعيداً. إلا أن العرف الغالب كان ثلاثة آلاف قرش، منها ألفان معجلة وألف مؤجلة.

وكانت صيغة الزوجة ومجوهراتها نوعاً من الادّخار لليوم الأسود، وطالما كانت الأمهات والزوجات تنزع أساورها وتقدّمها لزوجها أو ابنها لتيسير عسره. روى يوسف الحكيم أن اسم يوسف الهاني كان من ضمن عريضة كانت مخبأة في القنصلية الفرنسية في بيروت تلتمس مساعدة فرنسا لفصل سورية ولبنان عن الدولة العثمانية، وقد حكم عليه بالإعدام. ونظم إبراهيم سرسق حفل عشاء لجمال باشا لإنقاذ الهاني من الإعدام حتى أن زوجة هذا الأخير طرحت حليها أمام جمال باشا فداء عن زوجها فأجابها: «خذي حلاك واصرفي ثمنها على تعليم أبنائك حبّ الوطن...».

حلي صفية القرقوطي وفاطمة البنداق

عرفنا أنواع الحلي والمجوهرات التي كانت شائعة في البيوت في القرن التاسع عشر من خلال وثيقتين: الوثيقة الأولى سنة 1273هـ خاصة بمجوهرات جدتنا العليا صفية إبراهيم القرقوطي زوجة الشيخ مصطفى دندن وكانت مؤلفة من: «قفوة ثلاث عشرة ضفيرة ذهبا معلق بكل ضفيرة ذهبان اسلامبولي وكردان (عقد الماس للرقبة) ذهب محلّى بذهبين اسلامبولي وذهب جهادي وصنوبرية (بشكل كوز صنوبر) ذهب معلق بها خمسة وعشرون ذهبا اسلامبولي وزوج حلق ذهب معلق بها عشور رباع فندقلية وقرصين أحدهما ذهب والآخر فضة مطلي وسوار ذهب وحمالتين معلق بهما ثلاثون ذهبا جهاديا». والوثيقة الثانية سنة 1281هـ خاصة بمصاغ الحاجة فاطمة بنت الحاج محمد البنداق زوجة الحاج مصطفى عبد القادر شبقلو وهو «زوج سليتات (أساور دقيقة) ذهب وصنوبرية ذهب وناطور (وهو قطعة من الذهب تشبه اللوزة الصغيرة مرصّعة بالخرز تناط بالعصبة فتتدلى بين الحاجبين - كأنها الناطور الحارس للعينين) ماس بجرزة لؤلؤ وفستق ذهب مرصّع بلؤلؤ وزوج حلق ذهب وبخنق (البخنق غطاء للرأس، وفي «تاج العروس»: خرقة تتقنّع بها الجارية لتقي الخمار من الدهن والغبار. وفي «محيط المحيط»: ما يلبس على مقدم العنق من الحلي). ذهب معلق به سبعة عشر ذهبا جهاديا واسلامبولي». يذكر ان عبد العزيز غندور أعلن سنة 1902 عن سرقة مصاغ من بيته هو «بروش الماس مشنشل وبروش الماس بعصفور وريش الماس صغار وربطة رقبة وشكلة الماس وحلق الماس خروسة جوز وزنار فضي..».

مبرومة رأس الحيّة ومبرومة عرق الدالية

 بدأت منذ أوائل القرن العشرين تظهر مجوهرات جديدة مختلفة عما سبقها. ومن سوق رعد وهاني لبست عرائس بيروت في معاصمهن الأساور الذهبية المسماة «دقة الألماز» والمبرومة «رأس الحية» المجدولة من الذهب وينتهي طرفاها برأسي حيّة مطعّمتين بالأحجار الكريمة. والمبرومة عرق الدالية «المجدولة من الذهب وينتهي طرفاها بورقتين تشبهان ورقة دالية العنب» (لا علاقة لمينة الدالية في الروشة بها)، ولبست الصبايا في أصابعهن الخواتم الذهبية المطعّمة بألماس البرلند والفلمنك (وهو تقليد للألماس رخيص الثمن). ومن أشكال الخواتم خاتم «الشختورة» على شكل مركب مطعّم بالأحجار الكريمة. وعلّقن في جيدهن أنواعاً من العقود والسلاسل وفي آذانهن الأقراط وذلك قبل أن يلجأن الى البنتاطيف من الفرنسية Pendentif للرقبة. ومن أنواع المصاغ التي كانت شائعة بأسماء مختلفة منها: كمر (زنار) فضة - عقد لؤلؤ - كستك بساعة ذهبية - حبال ذهبية - والكردان وهو عقد من ألماس للرقبة دخل في أغاني الصبايا بقولهن:

دخلك يا طير علّمني ناغا ناغا

شوفي شو بدّه الآغا

طالب وصالي الساعة

لبّسني الكردان والساعة

 ومن الأغاني: جاب لي وجاب لي يا ماما جاب لي.. خاتم الماز.. ريتو يسلم لي.. الخ..

وصيغت للأطفال لردّ العين قطع ذهبية بشكل صليب أو أيقونات ذهبية صغيرة بأسماء القديسين أو هلال وسطه نجمة مسدسة (كانت النجمة المسدسة شائعة في العهد العثماني حتى ان أثاث السلطان عبد العزير كان مزخرفا بها) حفرت عليها آية الكرسي أو ما شاء الله أو المعوذتان.

أسعار المجوهرات

لإعطاء فكرة عن أسعار المصاغ والمجوهرات، تفيدنا وثيقة مؤرخة في آخر جمادى الأولى سنة 1291هـ ان يوسف قطيطة كان يملك «قمر ونبريز (جنزير) به جرزة لؤلؤ وخاتم ياقوت وزوج حلق الماس وشلة لؤلؤ وثلاثة أزواج سليتات ذهب وخمسة خواتم الماس وأحد عشر ظرف فضة وقلبين ذهب قيمتها سبعة عشر ألفا وسبعمائة وخمسون قرشا رهنها في كانون الثاني سنة 1869م عند الصائغ نقولا ساسين. وكانت أسعار الحلي سنة 1291هـ: زوج حلق الماس 2500 قرش، عقد لولو ستة عشر حبلا 3000 قرش، زوج أساور ذهب 2000 قرش، كستك ساعة ذهب 1300 قرش.

إشكال في سوق الصاغة

ومن طرائف سوق الصاغة في بيروت (أيام ما كان فيه نخوة) أن أحد الدلالين ويدعى الحاج عنتر كان يقف في شارع البورصة قرب مبنى سينما أوديون (أوبرا سابقاً) حاملاً سيفاً يدلل عليه وينادي: من أيام إبراهيم باشا، سيف أثري، مرصّع بالأحجار الكريمة، مقبضه مذهّب، قُطّعت فيه مئات الرؤوس الكبيرة، كما داوى رؤوساً كثيرة كانت تشكو الصداع. وكانت أم عبده الدلالة أثناء ذلك مارّة في سوق الصاغة وشاهدت أحد الصائغين يلبس أساور في زنود إحدى الصبايا، فرفعت حجابها وكشفت وجهها وصارت تتمتم وتهذر وهي سائرة حتى وصلت الى حيث يقف الحاج عنتر بالسيف فقالت له: روح ادحشه؟ فقال لها: شو القصة يا أم عبده؟ قالت: ما بقا في حياء، ما بقا في نخوة، ما بقا في دين، ما بقا حدا يستحي ويخاف الله روح شوف الصايغ يدسدس زنود الصبيــة؟ فأخذته الغيرة وصرخ: باطل قولي مين هو؟ وسلّ السيف من غمده ولوّح به عدة مرات في الهواء وقال بصوت عالٍ (صوت الدلال يجب أن يكون عالياً): «لمّـــــي روس (رؤوس)». وسمع التجار صراخه فأقفلوا حوانيتهم وهربت المارّة وخلت الأسواق، وأسرع رجال الضابطة وقبضوا عليه وساقوه الى دائرة البوليس (البرج) ورأى أثناء سوقه أم عبده فقال لها: خربتِ بيتي الله يخرب بيتك.

وأخيرا نشير إلى ما تناقلته أمهاتنا وجداتنا عندما كان يأتي خاطب ويعلمن انه تاجر عامل في السوق مستعد لتقديم ما يرغبن من مجوهرات فيقلن له: يا ابني شب في السوق ولا صيغة في الصندوق.



* مؤرخ