ورد في الحديث الشريف «تسحّروا فان في السحور بركة» وفيه «تسحّروا ولو بجرعة ماء». والسحور - بفتح السين - إسم لما يؤكل وقت السحر. والسحور - بضم السين - تناول الصائم للسحور. والسحور مشتق من السحر وهو ما بين الفجر الصادق والفجر الكاذب لأن له وجهاً الى النهار ووجهاً الى الليل. حدّد المسلمون في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فترة جواز الأكل والشرب بآذان بلال، وعرفوا الامتناع عنهما بآذان إبن أم مكتوم. وقد تنظّم إعلان السحور بما فرضته أحكام الحسبة، قال إبن الاخوة «ينبغي للمؤذن أن يزيد في التذكار والتسبيح في ليالي رمضان، وينادي بالسحور أولاً ثم يشرب الماء ثم ينادي قرب الصباح ثم قرب الأذان ثم بعد ذلك يطفيء الفانوس ثم يؤذّن، ومتى تعذّر عليه طفي الفانوس كسره. فان من لم يسمع الآذان لبعده، إنما اعتماده في أكله وشربه على رؤية الفانوس».
ولما كان السحور دعوة للتزوّد بالطعام والشراب، فقد برزت شخصية المسحراتي، الذي يتولّى إيقاظ النيّام لتناول الطعام . ذُكر أن والي مصر كان يذهب سنة 238هـ الى جامع عمرو بن العاص في الفسطاط ماشياً من وسط القاهرة، وكان ينادي بالسحور. وتولّى المؤذّن في مكة المكرمة التسحير من مئذنة الركن الشرقي للمسجد، ونصبت في أعلى المئذنة قطعة من خشب يرفع عليها قنديلان كبيران يوقدان للسحور ويطفئان عند الإمساك.
التسحير بالبوق والنفير والطبلة والحماق
وقيل ان الأندلسيين استعملوا في قرطبة البوق في النداء للتسحير، من «بوقا» الرومانية Bucca-Bouche وتعني الفم، وانتقل البوق الى فاس فبنيت عندها ثلاثة أبراج سمّي واحدها «برج البواقين»، وأطلق على البوق اسم النفير الذي حلّ محل الطبل الذي كان مستعملاً أيام الموحّدين. وكان طول البوق حوالي المترين ويتألف من ثلاثة أقسام متداخلة، استوحاه بعض الرسامين لرسم بوق النفخ في الصور. وترافق عادة نفاران في الأداء. وقد يكونا أصل العادة التي نشأت فيما بعد في بلادنا أعني عادة ترافق الطبل والزمر وشيوع الأمثال الشعبية التي تجمع بين لاعبيهما فتقول: «الطبّال بيعرف بيت الزمّار. وشوارب كبار يا طبّال يا زمّار».
يروى ان التسحير شاع في العصر العباسي على يد أبو نقطة الذي كان مكلّفاً بإيقاظ الخليفة. وقد سمّى أهل بغداد الشعر الذي نظموه لإيقاظ الخلفاء لتناول السحور بالـ«قوما»، لأنهم قالوا في آخره: قوما للسحور قوما. أما أهل الشام ومصر والمغرب فسمّوا الشعر المذكور بـ«الحماق». وقد أعاد البعض لفظ الحماق الى الحمق وذلك ان دقات النفير في المغرب كانت أربعاً: الأولى بعد نصف ساعة من صلاة العشاء والثانية بعد ساعتين أو ثلاث من الأولى وتهدف الى إيقاظ الطبّال - الدقاق - والدقة الثالثة هي الحمقاء لأنها تنبّه الدقاق الى قُرب انتهاء مهمته وتسمّى آخر دقة قاطعة السحور.
ساد إنشاد الحماق عند السحور وكان يُنظّم في أدوار. أطرى إبن الأثير في «المثل السائر» بلاغة مسحّري عصره التي كان منها: «أيها النوّام قوموا للفلاح، واذكروا الله الذي أجرى الرياح، إن جيش الليل قد ولّى وراح، وتداعى عسكر الصبح ولاح، معشر الصّوام يا بشراكمو، ربكم بالصوم قد هناكمو، وجار البيت قد أعطاكمو، فافعلوا فعل أرباب الصلاح».
لا تزال عادة التسحير باقية في بلادنا وقد أخذت في بعض الأحيان الطابع الفلكلوري. واختلفت عبارت الإيقاظ، فمن المسحّرين من كان يقرأ آيات من القرآن الكريم، ومنهم من كان يقول: «تسحّروا كلوا واشربوا». في فلسطين كان المسحّر يقول: «لا إله إلّا الله، يا نايم وحّد الدايم، يا نايم وحّد الله»، أو «يا نايمين بدوركم قوموا الى سحوركم جاي النبي يزوركم». وفي المغرب يردد الدقاقون: «عباد الله نوضوا تسحروا في طاعة الله يرحمنا ويرحمكم الله». من طريف ما ذكره الأسدي عن مسحّر مدينة ادلب قوله: «يا أهل ادلب ما أكتركو، جعيص معيص مسحركو، إن فقتو وإن ما فقتو، إليّ كيل شعير عليكو، باخدو وبقلع عينيكو».
المسحّرون في بيروت
من الأمثال القديمة في بيروت قولهم «سمّوك مسحّر قال خلص رمضان» وأصله أن أحد العاطلين عن العمل كان يراجع أحد المتنفذين لإيجاد وظيفة له، وفي آخر شهر رمضان قال له لقد عيّناك مسحراً. ولعل أصل هذا المثل من المثل المغربي الذي يقول «أيش كان باباك؟ قال له: نفار، قال له: الحمد للّه رمضان تقضى».
وإستعمال الطبلات للسحور قديم في بيروت، ولم ترد من أخبار المسحرين إلّا ما ذكر عن بعضهم عرضاً في أواخر القرن الماضي. روي ان ما كان يحصل منهم كان يتنافى مع الغاية من التسحير، لان كل فرد من الطبالين كان يجول جميع أحياء البلدة، ولأجل أن يساعده الوضع على القيام بمهمته كان يأخذ طبلته من الساعة الرابعة عربية - أي العاشرة ليلاً - ويجول من مكان الى آخر بحيث أصبح في كل ربع ساعة يمرُّ واحد من أصحاب تلك الطبلات، وهكذا الى قُرب الإمساك. وقد شكا الأهالي في شهر رمضان سنة 1298 هجرية/ آب سنة 1881 ميلادية من هذا الوضع، ورجوا البلدية والضابطة وضع حد لذلك بأن يعيّن كل صاحب طبلة لمحلة مخصصة. كما شكوا من الوضع نفسه في شهر رمضان سنة 1302هـ/ حزيران سنة 1885م ومن إكثار الطبالين من الخبط. وذكر انهم بلغوا أكثر من أربعين طبالاً. ذكرت صحيفة «ثمرات الفنون» لصاحبها الشيخ عبد القادر قباني في رمضان سنة 1313هـ/ حزيران 1886م ان المطبلين ما زالوا يأخذون بالجولان من الساعة الرابعة، فيذهب الأول ثم يأتي الثاني والثالث والرابع في أوقات مختلفة وكل منهم يضرب ضرباً شديداً كأن الناس في حالة النوم الشديد. وقد نجحت الحملة المذكورة، فأوعز رئيس البلدية في حينه محي الدين حماده - ابن عبد الفتاح آغا حماده الشهير بفتيحة - الى الطبالين بأن يلازم كل منهم محلته ويجول بها ولا يتعدّاها الى غيرها. فخفّ الأمر عما كان.
تسحيرات أبو عبد الزغلول
من المعروف أنه لم يكن يتولّى أمر التسحير إلّا من يجد في صوته رقّة تجعل إنشاده محبّباً وبيانه حسناً وإشارته لطيفة. كان المسحر في بيروت القديمة يعرف جميع السكان لذلك فأنه عند جولانه بطبلته كان ينادي كل صاحب دار بإسمه أو بكنيته: با أبا فلان، فإذا أجابه هذا الأخير قال له: وحّد الله. وقد اشتهر في بيروت أوائل القرن مسحّر من آل الزغلول مصري الأصل اسمه أبو عبد الزغلول، من أنسبائه حسن الزغلول وكان موظفاً في المحكمة الشرعية ومكلّفاً بالوقوف فوق رمال تلة الخياط لإعطاء الإشارة الى المدفعجي بإطلاق مدفع الإفطار. وسعيد الزغلول الذي تنسب له البقلاوة الزغلولية (حدف) التي أصبحت تقليداً رمضانياً وكان يصنعها في شهر رمضان في محله في سوق البازركان. تعلّم منه الحرفة ابن عمه عبد القادر الزغلول الذي فتح محلاً في المرفأ. ومن أنسبائه من كان يشترك بطبله مع شخص آخر بمزماره بأحياء بعض المناسبات الاجتماعية وعُرف طبله «بطبل زغلول» الذي قال فيه الزعني وقوله لا يزال صالحاً حتى اليوم: «طبل الزغلول بيجمعنا وضربة عصا بتفرّقنا، وبعدنا بنقول نحنا ونحنا؟». أما المسحر أبو عبد الزغلول فقد تميّز برقّة الصوت وسلامة الذوق ومن أناشيده فــي التسحير:
«سلامي على ناس يوم الحرب ما ولّوا
نصبوا خياماً لهم على البحرين ما انبلوا
في أول الليل حلّوا شعورهم حلّوا
وفي آخر الليل في حرم النبي صلّوا»
- ومنها:
«سلامي على ناس يوم الحرب عملوا عيد
ركبوا مطاي لهم ع كلمة التوحيد
بأول الليل يقرأ وردهم ويعيد
وبآخر الليل صافح المصطفى بالإيد»
ويروي والدنا عن جدتنا ان عائلتنا انتقلت سنة 1902م من محلة الحضرة - الحدرة - والشيخ رسلان في بيروت القديمة الى محلة خندق الغميق (البرية) وسكنت بجوار بيت المرحوم داود القرم الرسام المشهور، وكان المسحر الزغلول يتردد الى محل السكن الجديد وينشد الأناشيد الرمضانية، فكان داود القرم وزوجته فرجيني نعمان من المعجبين بصوت الزغلول وإلقائه وكانا يطلبان من جدتنا أن تدعو الزغلول للمرور يومياً. وكان من تسحيـرات الزغلول:
«في أول القول مدحك يا نبي استفتاح
وبخاطري يا مصطفى لسكن حداك وأرتاح
وبشاهد الكوكب الدرّي مسا وصباح
وبقول للعين من بعد السهر ترتاح»
- ومنها:
«وبتاني القول مدحك يا نبي مطلوب
كم كربة فرّجتها عن المكروب
اجت الغزالة لبنها ع الثرى مسكوب
أجرتها يا نبي حتى توصل المكتوب»
وقد أدركت مسحّر محلة رأس النبع يردّد من نظم الشيخ إبراهيم المجذوب:
وأنت أعظم مخلوق تظلله الزرقاء
يا ساكناً في القبة الخضرا
يا صاحب المعجزات الباهرات لقد
أعطاك رب السما الآية الكبرى
ان الوفود الى أعتابك التجأوا
يرمون منك التفاتاً يا أبا الزهرا
* مؤرخ