بيروت - لبنان

9 أيار 2022 12:00ص أوراق بيروتية (62) وقف إبراهيم العيتاني سنة 1035هـ/ 1625م لدارين في محلة الجاموس قرب حمام الأوزاعي (1/3)

وثيقة وقف العيتاني وثيقة وقف العيتاني
حجم الخط
هذه الدراسة مهداة الى الشاب الباحث خالد بلال العيتاني، وهي خاصة بوقف إبراهيم العيتاني المسجل قبل سنة 1035هـ/ 1625م لدارين في محلة الجاموس ببيروت قرب حمام الأوزاعي، نمهّد لها بما أظهرته عملية مسح أراضي الدولة العثمانية ومنها بيروت من أسماء لمحلات وأحياء وأسماء السكان.

الشملة مقياس المساحة في بيروت
عرفت عملية المسح في المصطلح بإسم «الروك» وهي قبطية أصلها «روش» ومعناها الحبل ثم استعملت للدلالة على عملية قياس الأراضي بالحبل. وهذا الحبل كان يعرف عند البيارتة بالشملة التي كان يتم قياس الأراضي وبيعها على أساسها، وكان طول شملة بيروت عشرة أذرع. وشاع القول بأن الأراضي في بيروت بالشملة. وقد اصطلح على استعمال لفظة «روك» في مصطلح الإدارة المالية في مصر والشام في العصور الوسطى للدلالة على عملية مسح الأراضي وحصرها في سجلات وتثمينها وتقويم العقارات الثابتة مرة كل ثلاثين سنة. وهذا المسح يشبه ما فعله وليم النورماني بعد أن فتح انكلترا سنة 1066م وسمّي كتاب الروك بإسم «Domes Day Book»، وقد نشر نيجل Nijel سنة 1176م رسالة قال فيها ان الانكليز يُسمّون كتاب المساحة Domesdei تشبّهاً بيوم الحساب لأن الفحص شمل كل شيء بحيث لم يتمكن أحد من الفرار منه. وان ما قرّره السجل المحفوظ أضحى غير قابل للتغيير أو الاعتراض.
محلة عبد القادر عيتاني
من المعروف أن عملية المسح قام بها السلطان العثماني سليمان القانوني، فعيّن لجنة لمسح أراضي السلطنة بما فيها بيروت. ودوّنت أسماء المالكين في دفاتر (سجلات) وأصدر السلطان سنة 1010هـ/ 1602م إرادة سنية بحفظ السجلات في نظارة الدفتر الخاقاني ومنحها القوة الثبوتية المطلقــة، ولا تزال تلك الدفاتر محفوظة في تركيا وكلمة طابو Tabo تركية معناها الطاعة والانقياد استعيرت للدلالة على المال المأخوذ لبيت المال بمقابل الانتفاع بالأراضي الأميرية.
وقد أتاحت لنا السجلات المذكورة فرصة معرفة بعض مواقع ومحلات قديمة في بيروت، وكذلك معرفة شهرة بعض العائلات. ويبدو من مراجعة دفاتر الطابو العثمانية القديمة غياب بعض شهرات العائلات والاكتفاء بالأسماء الشخصية فقط. أحد هذه الدفاتر العائد لسنة 1530م لا يظهر سوى محلة بإســـــــــم «عبد القادر عيتاني».
وقف إبراهيم العيتاني في محلة الجاموس قرب حمام الأوزاعي
يمكن القول بأن أقدم وثيقة بيروتية بهذا الخصوص كانت بحوزة المرحوم محمد جميل بيهم، وقد دوّن على ظهرها بخطّه «شهادة من قاضي مدينة بيروت مؤرخة في 1035 سنة هجرية بتولية الحاج أحمد بن الحاج إبراهيم بن محيي الدين (بن عبد القادر) العيتاني متوليا على وقف والده «العبارة بين الهلالين زادها محمد جميل بيهم». وقد تكرّم ابن شقيقه المرحوم نهاد بيهم بتسليمي صورة عنها (أعطيتُ السيد محيي الدين العيتاني صورتها بناء لطلبه). وفي حجة الوقف كلمات مطموسة بفعل الزمن وفي متنها شهادات لبعض الأسماء، والوثيقة المذكورة تعود إلى 13 صفر الخير سنة 1035 هجرية/ تشرين الثاني (نوفمبر) سنة 1625 ميلادية ومضمونها تولية أحمد بن إبراهيم بن محيي العيتاني على وقف والده من قبل قاضي بيروت (اسمه وعلامته غير واضحين) ومضمونها حرفيا «في مجلس الشرع الشريف ومحفل الحكم المنيف بمدينة بيروت... نصب سيدنا ومولانا قدوة قضاة الإسلام... الحنفي الواضع خطه الكريم أعلاه دام فضله وعلّاه وبلّغه في الدارين... حامل هذا الكتاب الشرعي وناقل الخطاب المرعي المحترم الحاج أحمد ابن إبراهيم بن محيي الدين العيتاني الحاضر بالمجلس متوليا شرعيا على وقف والده إبراهيم المذكور وعلى جميع الدارين الكائنين بمحلة الجاموس الذي أحدها كبيرة والثانية صغيرة لصيقها والجنينة الذي هي لصيق الدارين المذكورتين أعلاه بالقرب من الحمام المعروف بالأوزاعي بموجب كتاب الوقف المخلّد بيده وإذن مولاتا الحاكم الشرعي للمشار إليه أعلاه في التولية على الأماكن المذكورة وفي عمارتهم بما يصلح شأنهم وأن يؤجرهم عند احتياج الأمر الى الاجار وقبل ذلك لنفسه نصبا وإذنا صحيحين شرعيين... في ثالث عشر شهر صفر الخير من شهور سنة خمسة وثلاثين وألف». وتلي شهود الوثيقة وهم الحاج بدر الدين أبو قرعه ومحمد بن... وسيد أحمد ابن... وفي الهامش شهادات من تقي الدين ابن عبد الرحمن الخطيب وزين الدين ابن تقي الدين الخطيب وأمين الدين ابن عبد السلام..
وفي ملاحظات على الحجّة المذكورة نقول:
- أمكن تحديد موقع الموقوف بانه تجاه قبة زاوية ابن عراق باعتبار ان زاوية - مسجد الإمام الأوزاعي الحالية بُنيت أصلا على دكاكين كانت معروفة ببيت الأوزاعي وحمامه.
- يتضح من عبارة «بموجب كتاب الوقف المخلد بيده» ان تاريخ الوثيقة أي 1035هـ هو تاريخ التولية على الوقف ما يعني ان إنشاء الوقف يعود الى ما قبل ذلك التاريخ.
- ولم يذكر في حجة التولية تاريخ حجة الوقف.
- لم يتبيّن من الوثيقة ما إذا كان الوقف ذرّياً أو خيرياً ولا تخصيص ريع الوقف بالذكور والإناث أو بالذكور فقط.
- كان التقليد في سماع وثائق قديمة أن يشار الى السجلات الشرعية القديمة وفي حال فقدان هذه الأخيرة أن يدرج القاضي الناظر بطلب يتعلق بوقف قديم أن يدرج في حكمه نص حجة الوقف القديم لمعرفة شروط الوقف والمستحقين من الريع؟
- ولم يظهر من نص حجة التولية اسم القاضي الذي قرّر التولية (لعل ذلك بسبب الزمن) لأن التقليد استمر على ذكر اسم القاضي وختمه وعلامته في رأس الوثيقة.
- والجدير بالملاحظة ان الوثيقة هي باللغة العربية وكذلك الوثائق المسجلة في السجلات الشرعية، ومن هنا يصح القول بأن العثمانيين لم يفرضوا لغتهم على أهالي البلاد التي حكموها، وكان القضاة يختارون من أهالي البلد حتى سنة 1267هـ/1850م عندما أصبحت بيروت مولوية دورية يعيّن عليها أحد خرّيجي معهد القضاة في إسطنبول.
- وتشير الوثيقة الى مذهب القاضي بانه «الحنفي»، ذلك ان العثمانيين كانوا على هذا المذهب وفرضوه في المعاملات في المحاكم الشرعية وهو المذهب الذي اعتمد في مجلة الأحكام العدلية التي اعتمدت المتفق عليه من المذهب.
- في هامش الوثيقة اسم الشاهد تقي الدين بن عبد الرحمن الخطيب ومن المرجح ان الخطيب المشار إليه كان خطيب جامع فتوح الإسلام أي الجامع الكبير العمري الذي تحوّل الى جامع سنة 1291م عند سيطرة المماليك على بيروت. وقد اعتدنا أن نلحظ في الوثائق الشرعية التسمية بالكبير قبل العمري لتمييز العمري الكبير عن العمري الصغير القديم الذي كان موقعه جامع الدباغة. علما بأن البيارتة كانوا يقولون الجامع الكبير.
- ويبدو ان الاسم الذي أضافه محمد جميل بيهم لنسب الواقف على ظهر الوثيقة (بن عبد القادر) يحتمل الواقع، فقد قلنا ان المحلة التي وردت في سجل الطابو العثماني بإسم عبد القادر عيتاني سنة 1531م وان الذي تولّى على الوقف هو أحمد بن إبراهيم بن محيي الدين سنة 1625م والفرق بين التاريخين ضم أحمد وإبراهيم ومحيي الدين.
محلة الجاموس
تفيد الوثيقة بأن الموقوف كائن في محلة الجاموس التي هي قرب حمام الأوزاعي.
والجاموس لقب عائلة بيروتية قديمة؟ فمن المعروف ان العرب كانت قديما تسمّي أبناءها لتخيف أعداءها مثل أسد ونمر وجاموس وذئب (اشتهر في بيروت ثلاثة ذئاب هم: ديب محرم وديب الانسي والد الشاعر عمر الانسي وديب الطبجي فتح الله المفتي) وكانت تسمّي بناتها مرجانة وعبلة وهندا. وقد ظهر لقب الجاموس في وثيقة الوقف المشار إليها. كما ظهر هذا اللقب أيضا في الوثيقة المؤرخة في 11 شعبان سنة 1264هـ/ 1848م وفيها وكّلت فاطمة سعادة ولدها الحاج محمد ابن الحاج عبد القادر جاموس في نزاع حول علّية داخل دار جاموس الكائنة بالقرب من حارة اليهود. ويتبيّن من جردة أوقاف قفة الخبز في بيروت التي جرت سنة 1843م «حكر بيت جاموس على زوجة صادق المحب». وقد ورد لقب الجاموس في الوثيقة المؤرخة في غرة جمادى الأولى سنة 1180هـ/ 1766م لدى قاضي بيروت مصطفى (وهي من الوثائق الخاصة بزاوية الشيخ علي القصار بين علي بن عبدي آغا ومحمد بن جميل القصار) فكان من بين الشهود علاء الدين جاموس وعبد القادر حندس (أصبح لدى البيارتة حنتس) ومولانا الشيخ علي فتح الله (والد المفتي الشيخ عبد اللطيف فتح الله) ومحمد الطبجي (فتح الله).
غياب أية معلومة عن الوقف
لم تظهر أية معلومة عن الوقف منذ وثيقة سنة 1035هـ/ 1625م ولا من تولّى عليه بعد ذلك ولم يرد ذكر أحد من بني العيتاني له صلة به حتى سنة 1680م عندما نشرت وثائق زاوية الشيخ علي القصار جد آل القصار البيارتة. ففي غرّة جمادى الأولى 1096هـ/ 1685م وقف الشيخ علي القصار لدى قاضي بيروت كمال الدين مخزناً في الاسكلة (المرفأ) يحدّه قبلة ملك «الخواجا» عمر بن محفوظ بن العيتاني وشرقاً حديقة ورثة أبي نوفل الخازن وشمالاً ملك الخواجا عمر بن الحاج حسين الحلواني. كما وقف قبواً سفلي بيت الحاج يوسف ابن الحاج محمد حندس (أصبحت حنتس لصعوبة لفظ الدال بين النون والسين لدى البيارتة) وغرباً ملك الحاج محمد بن علي الناطور, وقد حمل الكثير من أبناء بيروت لقب الخواجا. يذكر ان وثائق زاوية القصار تعود للسنوات 1091 و1092 و1096 و1204هـ/ 1680 و1681 و1693م وقد ظهرت فيها بعض أسماء لأسرة العيتاني منها الخواجا عمر عيتاني، وناصر الدين العيتاني شقيق عمر، وفخر أقرانه الحاج علي العيتاني. (كما بيّنا في كتابنا «زوايا بيروت»).
 * مؤرخ