بيروت - لبنان

اخر الأخبار

21 أيار 2022 12:00ص أوراق بيروتية (64) 1847م تحصين وقف إبراهيم العيتاني بتعيين المتولّي وتأجير جنينة الوقف (3/3)

وثيقة وقف العيتاني وثيقة وقف العيتاني
حجم الخط
من ذكريات عبد القادر القباني ان نعيم أفندي يوم قَدِم الى بيروت سنة 1845م بإسم ناظر الأوقاف, وكان بينه وبين شيخ الإسلام أبو الهدى الصيادي قرابة، فأخذ من نظارة الأوقاف وثائقها واغتصب العقارات الموقوفة، باع بعضها من الناس وأبقى بعضها تحت يده. ومن هذه الأخيرة وثيقة وقف بني عز الدين في ميناء الحسن التي أقيم على أرضها ما عُرف بقهوة نعيم أفندي وفيما بعد بقهوة الحمراء التي آلت الى جمعية المقاصد.
ومن المرجح أن تكون أعمال نعيم أفندي قد دفعت المستحقين من وقف إبراهيم العيتاني الى تصحيح أوضاع الوقف، علما انهم لم يسجلوا وثيقة سنة 1811م الصادرة عن القاضي الشيخ أحمد الأغر في السجل الجديد الذي افتتح سنة 1843م بعد خروج إبراهيم باشا من بيروت وعودة الحكم العثماني المباشر إليها. فسارعوا الى تحصين صفتهم كمستحقين وطلبوا تعيين متولي وناظر على الوقف.

تعيين ناظر ومتولي على الوقف
يذكر ان إبراهيم باشا عندما حكم بيروت شكّل مجلس شورى من اثني عشر عضوا مناصفة بين المسلمين والمسيحيين (والذي اعتبر فيما بعد كقاعدة؟) وعيّن عمر بيهم لرئاسة المجلس نظرا لما كان يتمتع به واخوانه من مركز اجتماعي واقتصادي على الأقل منذ إدارة محلهم التجاري سنة 1827م، كما أثبت راتب حسامي في رسالته المقدمة الى الجامعة الأميركية سنة 1942م. ويكون القول ان عمر بيهم واخوانه كمستحقين في وقف جدّهن الأعلى إبراهيم العيتاني عمدوا بعد افتتاح السجل الشرعي الجديد الى تصحيح وضع الوقف بتعيين المتولي.
وجاءت الوثيقة المؤرخة في الثالث من شهر صفر الخير سنة 1263هــ/ 1847م التي تصرّح بأن الدور الثلاثة مع الجنينة الملاصقة لها وقف المرحوم (أمين - شطبت هذه الكلمة) إبراهيم ابن السيد محيي الدين العيتاني هو على ذريته الذكور دون الإناث وان ذلك «اشتهر وتواتر وجرى عليه المستحقون والنظّار فيما مضى»، وكان الوقف شاغرا عن ناظر فاختار جميع المستحقين المبيّنين في وثيقة سنة 1226هـ/ 1811م ونُصّب القاضي عمر حلبي ابن المرحوم حسين بيهم العيتاني ناظرا ومتوليا لكي يتعاطى مصالح الوقف اللازمة وأموره المقتضية من ترميم وتعمير وإصلاح لأجل بقاء عينه، وأن يجري فيه بتقوى الله تعالى كما كان جاريا عليه النظّار قبله حسب شروط الواقف.
ومن المهم الإشارة الى ان شهود وثيقة التولية كانوا «عمدة العلماء مولانا الشيخ محمد أفندي حلواني زاده والشيخ علي العشي وفخر العلماء الشيخ محمد الحوت وعبد القادر جلول وعبد الله موسى وأحمد العانوتي وقاسم درويش وعمر الأسمر وحسن خرما».
تأجير جنينة الوقف
وفي التاريخ ذاته أي الثالث من شهر صفر الخير سنة 1263هـ/ 1847م حضر الى المجلس الشرعي الحاج مصطفى بيهم العيتاني وابن عمه مصطفى بن أحمد العيتاني والحاج خليل ابن إبراهيم الحص العيتاني واستأجر واستحكر كل منهم من عمر الناظر على الوقف المشهور ببني العيتاني المنصوب ناظرا ومتوليا، فأجّرهم وأحكرهم قطعة الأرض المفرزة من الجنينة المعروفة بجنينة الليمون الجاري بياض أرضها في وقف جدّهم الحاج أمين الدين (يريد إبراهيم بن محيي الدين) التي طولها من القبلة الى الشمال بثلاثة وثلاثين ذراعا وعرضها ستة وعشرين ذراعا بالذراع الاسلامبولي على مدة ثلاثين عقدا متضايفة عقدا بعد عقد، وكل عقد ثلاث سنين بعدل عن كامل المدة المحررة تسعون سنة بأجرة عن هذه المدة أربعون ألف قرش ألف وخمسمائة قرش موزعة على السنين المرقومة حسابا عن كل سنة من المدة المرقومة 450 قرشا يدفعونها للناظر المتولي المرقوم، وللمستأجرين والمحتكرين أن يبنوا في القطعة المحررة ما شاءوا من أنواع البناء والعمارات ويكون بعد ذلك ملكا مطلقا لهم. وشهد على الوثيقة الشهود الذين ذكروا سابقا ومصطفى قرنفل.
عمار أحد عشر دكاناً وقهوة
وبعد خمسة أشهر من تأجير الأرض أي في غاية شهر رجب الحرام 1263هـ/ 1847م باع محيي الدين بن محمد العيتاني ما هو آيل إليه بطريق الحق الشرعي الى الشقيقين عمر والحاج عبد الله ولدي حسين بيهم العيتاني وقَبِلَ الشراء الآتي بالنيابة الشرعية عنهما السيد محمد بن السيد إبراهيم أبي خليل الحص العيتاني بمالهما لأنفسهما دون مال غيرهما مناصفة بينهما بالسويّة لا يزيد أحدهما الآخر وذلك المبيع هو جميع الحصة الشائعة وقدرها قيراط وثلث قيراط من أصل أربعة وعشرين قيراطا في كامل العمار الجديد الواقع في قطعة الأرض المحتكرة من أرض الجنينة الجاري بياض أرضها في وقف بني العيتاني الملاصقة لدور بني العيتاني المعلومة الحدود والمحتوي العمار المذكور على «أحد عشر دكاناً وقهوة.. بثمن 2500 قرش».
حق الحكر
حق الحكر مأخوذ من الشريعة الإسلامية والغرض منه تأجير قطعة أرض بحاجة لمن يصلحها وينتفع بها مدة طويلة كي يتمكن من جني ما أنفقه على إصلاحها. وغالب الأمر أن يتم الحكر على الأراضي الموقوفة المهملة لم تصطلح ولم تؤجر أو تستثمر لمصلحة الوقف. وحق الحكر ملكية تقوم على الملكية الأصلية وقيد لها ويقتضي لإجرائه قرار من القاضي الشرعي بعد التثبّت من مصلحة الوقف وضرورة إصلاح الأرض والاستفادة منها.
وحق الحكر يكسب صاحبه حقا عينيا على الأرض الموقوفة ويعطيه الحق بالانتفاع من الأرض وإقامة ما شاء عليها من بناء وغرس ما يشاء من الغراس مقابل الأجرة المتفق عليها. وصار له حق القرار وفيما يدفع كل سنة القدر المتفق عليه فلا تصحّ إجارتها من غيره.
التأجير لأكثر من ثلاث سنين
منع الفقهاء تأجير وحكر الوقف لمدة تزيد عن ثلاث سنوات. إلا أن ما ينفقه المحتكر على الأرض من نفقات إصلاح وبناء وغرس قد لا يجنيه من ربح من البناء والغرس، فجرى التعامل على الالتزام بمدة السنوات الثلاث على أن تقسّم مدة الحكر البالغة 90 سنة على ثلاثين عقدا متضايفة عقدا بعد عقد مدة كل عقد ثلاث سنين، ويمكن تسديد الأجرة بكاملها سلفا عند الاتفاق أو توزيعها على دفعتين: دفعة معجلة عند الاستحكار وتوزيع المبلغ الباقي أقساطا متساوية على سنوات الحكر. ومن المتفق عليه ضمناً ان الفريقين عند الاتفاق اعتمدا ان بدل الإجار هو بدل المثل.
حقوق المحتكر
والذي يشجع المحتكر على اللجوء الى الحكر ان هذا الحق يعطي صاحبه التصرف في حقه كما يشاء من بناء وغراس، وينتقل هذا الحق وما بناه وغرسه الى ورثته من بعده فملكيته بما بنى وغرس هي ملكية تامة باعتبار ان حق الحكر هو حق عيني يتمتع صاحبه في كافة التصرفات التي يمنحه إيّاها الحق العيني، فيحق له أن يوقفه وأن يبيعه وأن يتصرف بما بناه وغرسه منفصلا عن حق الحكر، فله أن يبيع البناء لمشترٍ آخر ويؤجره حق الحكر فيصبح العقار الموقوف لثلاثة مالكين: صاحب الرقبة والمحتكر ومشتري البناء. ويجري تقدير قيمة الأرض وقت ابتداء التحكير أي كما كانت ابتداء قيمتها وقت التصقيع، والتصقيع من الصقع أي المحلة التي فيها الأرض ويجب تسديد أجرة الحكر المتفق عليها للوقف وإستيفاء الأجرة من المشتري.
مطالبة الوقف ببدل المثل
يذكر ان قانون العدل والإنصاف أجاز للمتولي على العقار الموقوف مطالبة المحتكر بتعديل بدل الحكر عندما تتدنّى قيمته مع مرور الزمن وهو ما يُعرف «بتصقيع الحكر» والتصقيع من الصقع أي المحلة التي فيها الأرض. وإذا كان بحيث لو رفعت عمارته لا تؤجر بأكثر ما يدفعه المحتكر فتترك في يده. والمعتبر في الزيادة أن تزيد في نفسها من غير رغبة راغب فيها ولا تعتبر الزيادة واحد أو اثنان فانها غير مقبولة بل المراد أن تزيد في نفسها عند الكل في نفس الوقت لأن عمارة المستأجر هي من ماله لنفسه.
الصداقة بين آل بيهم العيتاني ومفتي بيروت الشيخ عبد اللطيف فتح الله وقاضيها ومفتيها الشيخ أحمد الأغر
ولم نتبيّن مصير الوقف بعدما أرسى القاضي الشيخ أحمد الأغر شكل الوقف وثبت مستحقيه وسجّل توافقهم على استثمار دور الوقف مهايأة كما جرت عليه العادة وسار عليه القوام السابقون، تم تعيين عمر بن حسين بيهم العيتاني متوليا وناظرا على الوقف من قبل القاضي الشيخ محمد المفتي الطرابلسي الأشرفي وتأجير جنينة الوقف بقرار من القاضي المذكور وبيع بعض أصحاب الأسهم، نقول ان كل ذلك جرى بحضور وإطّلاع وموافقة وإشهاد علماء البلدة وعلى رأسهم عمدة العلماء المفتي الشيخ محمد الحلواني وفخر العلماء الشيخ محمد الحوت وغيره من أعيان البلدة. ما يدلُّ على مدى احترام أعيان بيروت لعمر بيهم العيتاني واخوانه وما قدّموه من آثار تُذكر فتُشكر ومناقب تشهد لهم.
فمن الوثائق التي استند إليها راتب حسامي مجموعة أوراق لمحل بيهم محفوظة في الجامعة الأميركية لمحل بيهم نشر منها الصديق الدكتور حسان حلاق في كتابه عن آل بيهم رسالتين مرسلتين من المفتي الشيخ عبد اللطيف فتح الله الى عبد الله بيهم إلا ان الخط التبس على الناشر فاعتبر ان الرسالتين مرسلتين من المدعو «عبد اللطيف عوله» ولمعرفة من هو عوله نقرأ في ختام الرسالتين توقيع المرسل وهو السيد عبد اللطيف وتحت اسمه كلمتي (غفر له) فأصبحتا عوله.
ومن الصداقة مع الأغر زار يوسف بيهم العيتاني الشيخ أحمد الأغر في منزله قبل توجهه الى دمشق فودّعه المفتي مرتجلا:
توجّه نحو جلق في سرور
فباب للّه فيها والسلامً
وترجع رابحا دينا ودنيا
بسعد ثم عز لا يضام 
وقال الأغر مادحا عمر بيهم العيتاني:
أنت الضياء يا عمر 
في كل وقت للبصرْ
أنت الكمال شاهد
يكفيك ما قال القمر
ان غبت عنكم فابشروا
خليفتي فيكم عمر
وقد طلب منه عمر تخميس بيتين وتشطيرهما فخمسهما وشطرهما وضاههما، فقال في المضاهاة:
يا ليل طلْ أو لا تحلْ
قد آن لي أن أشكرك
إذ كان عندي عُمَري 
فحقّ لي أن اعْمُرك... بالسهر

* مؤرخ