بيروت - لبنان

اخر الأخبار

16 تموز 2022 12:00ص أوراق بيروتية (72).. التأثّر والتأثير: أبد الآبدين ودهر الـداهـرين (1/4)

وثيقة أبــد الآبــديــن وثيقة أبــد الآبــديــن
حجم الخط
هذه الدراسة مهداة للصديق المؤرخ المهندس المعماري غبريال أندريا.
صح القول بأن الفرد مهما كانت فرادته أو تميّزه بملكات مخالفة للمألوف من العبقرية والإبداع فلا بد وبطريق الحتم واللزوم أن يتأثر بالنسق الاجتماعي السائد في مجتمعه. ولا شك بأن للزعماء والقادة والمفكرين موقعا مميّزا في مجتمعهم ولهم بالتأكيد تأثير وفاعلية في محيطهم الاجتماعي وبالمقابل فانهم يتأثرون بالمجموع. فالعلاقة بين الفرد مهما علا قدره ومجتمعه علاقة تبادلية بين الطرفين بصرف النظر عن مكونات المجتمع الدينية والعرقية والاقتصادية.. وفي الحديث: إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث، وعدّ منها الصدقة الجارية على وجوه البر والخير المتنوعة. والفضيلة والتقوى هما مذهب البيارتة، مسلمين ومسيحيين، الذين أسسوا الجمعيات الخيرية والمدارس والمياتم ورصدوا ريع أوقافهم لعموم الفقراء والمساكين ولوجه الله تعالى لا فرق بين دين ودين أو طائفة وطائفة. كان العمل الطيب قدوتهم وفي عمل الخير إسوة بمن سبقهم. وقد أملوا في أوقافهم بعد ذكر الموقوف على أن يكون وقفهم مخلّدا سرمدا أبدا ويضيفون التمنّي بأن يكون ذلك «أبد الآبدين ودهر الداهرين»، وقد حرص بعضهم على إضافة جملة ثانية هي «الى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين». وقد عرفت بيروت نماذج لهذا التمنّي بين مسلميها ومسيحييها، في الصلوات في الكنائس وفي وثائق الأوقاف.
*****
الأبـــد والـدهـــر
تتردد في الصلوات في الكنائس وفي بعض وثائق الأوقاف العبارة: أبد الآبدين ودهر الداهرين. فما الأبد وما الدهر؟ في رواية لأحمد والبخاري ومسلم: قال الله تعالى: يؤذيني ابن آدم يسبّ الدهر وأنا الدهر, بيدي الأمر أقلب الليل والنهار.
والدهر لغة هو الأمد المحدود لمدة العالم من مبدأ تكوينه الى انقراضه ويعبّر عنه بمدة طويلة ويجمع على دهور وأدهر. وقيل الدهر والزمان بمعنى واحد إلا ان بينهما فرقا نقول زمان الفاكهة وزمان الحر والبرد ولا يقال دهر الفاكهة ونحوه لأن الدهر لا ينقطع والدهارير أول الدهر في الزمان الماضي (لا واحد له) وقيل هو جمع دهور مختلفة على المبالغة. ومن عادة ابن آدم إسناد الحوادث والنوازل والمصائب الى الأيام والأعوام وتقلبات الدهر يسبّونها ويذمّونها ويقولون أصابتهم حوادث الدهر، يجعلون الدهر فاعلا لذلك والفاعل الحقيقي هو الله الخالق والموجد للخير والشر والحياة والموت والفقر والغنى. وليس للأنام فعل، فالدهر والأزمان أزمنة وظروف لإيقاع الأمور والحوادث، فمن سبّ أو ذمّ الدهر فقد سبّ الفاعل أي الله ومن عاب مصنوعاً فقد عاب صانعه.
ينسب الشعراء النوازل والمصائب الى الدهر فهو من قبيل أنبت الربيع البقل:
أيا دهر ان كنت عاديتنا
فما قد صنعت بنا ما كفاك
جعلت أشرار علينا خيارا
ووليتنا بعد وجه قفاك
 وقال بعض الحكماء: إصحب الدهر بالموادعة ولا تسابق الدهر:
من سابق الدهر كبا كبوة
لم يستغلها من خطى الدهر
فاخطُ مع الدهر إذا ما خطا
واجرِ مع الدهر كما يجري
وفي «لسان العرب» الأبد الدهر والجمع آباد وابود وتقول «لا أفعله أبد الآبدين» كما تقول «دهر الداهرين».
شيوع عبارة: أبد الآبدين ودهر الداهرين
وردت العبارة المشار إليها في كثير من الوثائق والمخطوطات لدى المسلمين والمسيحيين لا سيما في وثائق الأوقاف. ومن غير المفيد تتبع أول من استعملها، فكل ما هو جميل ومفيد لا يوقف انتقاله أية عقبات مكانية أو زمانية. ومن غير المستبعد أن تكون العبارة المذكورة قد انتقلت الى العرب بعد الفتح من سكان بلاد الشام ووردت في حقب مختلفة. فقد ذكرت سنة 1606 في وثيقة وقف محمود بك السنجق المسجلة لدى محكمة طرابلس الشرعية. كما وردت بين سنتي 1612- 1624 في كتاب «تاريخ الأمير فخر الدين» لأحمد الخالدي الصفدي داعيا للأمير وابنه بأن يمتع المسلمين بطول حياتهما «أبد الآبدين ودهر الداهرين». نظم المفتي عبد اللطيف فتح الله سنة 1237هـ/ 1821م قصيدة مشرّفة بإسم النبي المصطفى نشرت في ديوانه، وقال في مقدمة نثرية لها الصلاة على النبي دائما من غير حصر «أبد الآبدين ودهر الداهرين الى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين».
وأقدم ما عثرنا عليه مخطوط أصلي بعنوان «مختصر قصة المولد الشريف» التي ألّفها العلّامة ابن حجر الهيتمي في الحادي والعشرين من شهر جمادى الأولى سنة 967 هـ/ 1560م بخط مفتي بيروت الشيخ عبد الباسط الفاخوري، وقال مؤلفها في ختامها بعد الصلاة على النبي وآله وأصحابه وتابعيهم عدد معلومات الله تعالى ومداد كلماته «أبد الآبدين ودهر الداهرين».
وابن حجر الهيتمي (909- 974هـ) (1504-1567م) هو أحمد بن محمد بن علي بن حجر الهيتمي السعدي الأنصاري شهاب الدين شيخ الإسلام أبو العباس، والهيتم قرية من إقليم الغربية في مصر. وللهيتمي عدة مؤلفات كان الشيخ محمد الحوت يدرّس بعضها في الجامع العمري الكبير في بيروت منها «شرح الأربعين النووية» وفي خزانتنا نسخة نادرة منها بخط مفتي بيروت الشيخ عبد الباسط الفاخوري كتبها في الرابع من ذي القعدة سنة 1263هـ/ 1847م وتتميّز بأن حاشيتها تتضمن شروحات هامة من الشيخ محمد الحوت. كما ان المفتي الشيخ مصطفى نجا ذكر في كتابه «كشف الأسرار لتنوير الأفكار» الذي ألّفه في شهر رجب 1304هـ/ 1887م قولا لابن حجر الهيتمي «ان قلب النبي صلى الله عليه وسلم هو أول قلب أودع الأسرار الإلهية والمعارف الربانية لأنه أول الخلق».
أولاً: ورود عبارة أبد الآبدين ودهر الداهرين في بعض الوثائق
تظهر وثائق الأوقاف ان العبارة المذكورة كانت ترد في غالب وثائق الأوقاف وهي لم تظهر في وثائق أخرى، وقد أضيفت الى بعضها عبارة ثالثة.
فمن الوقفيات التي وردت فيها:
- وقف طالب شبارو سنة 1249هـ.
- وقف يوسف جبران مقصود (على فقراء الروم الكاثوليك في دمشق) 1281هـ.
- وقف جرجس سلوم بن إلياس شعيب الأورثوذكسي مآله لطائفة الروم الأورثوذكس في بيروت 1297هـ.
- وقف صفية بنت الحاج حسين شانوحة، الربع لقراءة القرآن والربع الثاني يشترى به خبو نظيف يفرّق كل جمعة على الفقراء والمساكين والربع الثلث يرسل الى الحرمين الشريفين يوزع هناك عن روحها والربع الرابع على عبد الله وسعد الدين شانوحة ومآله على الفقراء والمساكين 1281هـ.
- وقف محمد علي بن خالد بن علاء الدين يموت مآله للحرمين الشريفين 1327هـ.
- وقف درويشة بنت مصطفى قراقيرة مآله زاوية الباشورة 1281هـ.
ثانياً: أوقاف مع إضافة عبارة: إلى أن يرث الله الأرض وما عليها وهو خير الوارثين
- وقف اغناطيوس جرجس بن روفائيل بن جرجس شلحة بطريرك طائفة السريان الكاثوليك في الممالك المحروسة الانطاكي العثماني الحلبي مآله النصف على فقراء بطريركية السريان الكاثوليك التي مقر كرسيها في ماردينو، النصف الثاني على فقراء مطرانية حلب السريان الكاثوليك 1303هـ.
- وقف يوسف بن ميخائيل الدمشقي الارثوذكسي مآله فقراء طائفة الروم الارثوذكس في بيروت والشام مناصفة 1298هـ.
- وقف محمد صالح الطرابلسي 1279هـ.
- وقف نقولا بن إلياس فرج الله مآله فقراء الأرمن الكاثوليك في بيروت 1290هـ.
- وقف بكري بن بكري حلوم أبو قبوعة 1257هـ.
- وقف حسين بن حمزة دية 1282هـ.
- وقف موسى بن جرجي بن ميخائيل سيور مآله فقراء طائفة الروم الأورثوذكس في بيروت والشام مناصفة 1298هـ.
- وقف الحاجة نفيسة محمد الصيداني 1282هـ.
ثالثاً: أوقاف لم ترد فيها أية عبارة
ثمة بعض الأوقاف لم ترد فيها العبارة المذكورة منها:
- وقف الحاجة خديجة حسين بيهم بن ناصر العيتاني 1293هـ.
- وقف الحاجة اسما بنت قاسم درويش 1266هـ.
- وقف عبد الله روكس ناعسة على راهبات دير المحبة العازارية في بيروت وإلا على عموم الفقراء في بيروت والشام.
- وقف سارة عطا الله أرملة يعقوب بشور 1290هـ.
- وقف ماريا بنت يوسف خوكاز الحلبية مآله على فقراء طائفة الروم الكاثوليك في بيروت 1302هـ.
- وقف فتح الله إلياس بن فتح الله تاجر الحلبي، النصف على فقراء بتي تاجر وإلا على فقراء الروم الكاثوليك في حلب والربع على فقراء الكاثوليك في دمشق والربع على فقراء الطائفة في بيروت 1302هـ.
- وقف الشيخ محمد المفتي الطرابلسي.
- وقف حسيبة حموي 1329هـ.
- وقف حسن منيمنه.
- وقف بدرة عيتاني 1297هـ.
- وقف عاتكة قليلات 1258هـ.
- وقف محمد عبد الله وسعدى بيهم.
- وقف ظريفة الغول 1302هـ.
- وقف قريطم ونجا.
- وقف بدرة الجبيلي1294هـ.
- وقف حليمة يموت 1328هـ.
- وقف خديجة الصليب 1265هـ.
رابعاً: أوقاف ترد فيها عبارة «أبد الآبدين» فقط
- وقف نقولا بن خليل بن نقولا الطبجي الدمشقي الأصل المتوطن في بيروت على نفسه ومن بعده على زوجته وشقيقه وصرف مائة قرش من ريع غلّته سنويا الى فقراء المدرسة الانجيلية ومآله لصالح المدرسة الانجيلية الكائنة في القسم الشرقي من محلة الرميل، وانتهت الوثيقة بعبارة «وقفا منجزا أبد الآبدين» 1295هـ.
خامساً: أوقاف ترد فيها عبارة: إلى أن يرث الله الأرض وما عليها إلخ.. 
- وقف عبد القادر علي محمد البابلي عقاراته على نفسه ثم على أولاده وزوجته حسب الفريضة الشرعية مآله على مؤذني الحرم النبوي وعلى خطبائه وأئمته وعلى فقراء الحرمين الشريفين، واكتفت الوثيقة بالعبارة «الى أن يرث الله الأرض وما عليها وهو خير الوارثين» 1274هـ.
* مؤرخ