بيروت - لبنان

اخر الأخبار

13 آب 2022 12:00ص أوراق بيروتية (75).. التأثّر والتأثير: الموسيقى والغناء والموّال والبحر (4/4)

نظم لشعيب عبدالقادر عيتاني نظم لشعيب عبدالقادر عيتاني
حجم الخط
عرفت الشعوب البدائية الغناء والذي انتشر بفعل الأديان السماوية لا سيما التراتيل والتسابيح, فظهرت مزامير داود وأناشيد سليمان وتراتيل الكنائس والقديسين وأناشيد الصوفيين، وقيل ان أول من عُني بالموسيقى الدينية القديسة سيسيليا في القرن الثالث وتعتبر شفيعة الموسيقيين. وقد ضاع أكثرها لعدم وجود نوطــة فيمـــــــا جمـــع الأب دون جانان ما عثر عليه من ألحان سريانية وكلدانية في كتاب طبع في بيروت سنة 1914 ومما قاله ان الألحان الكنسية الشرقية نشأت قديماً ونَمَتْ في بيئتها، ودلّل على ذلك بنغم يُسمى القواق وهو الذي كان مناسباً لحركــة دولاب الفخـــــار، مما يظهر علاقة حركة أدوات العمل باللحن. ذكر الآباء في عائلتنا ان المارة بقرب الفاخورة في بيروت القديمة كانوا يصغون لترتيل القرآن الصادر من العاملين في الفاخورة. والفنون الجميلة كالموسيقى والشعر والرسم والغناء لا تعرف الحدود وكانت رائجة في بلاد الشام قبل الفتح العربي وبقيت تأثيراتها بعده نتيجة لعاملين: أولهما نتج عن الفتح العربي لبلاد الشام والتواصل مع السكان الأصليين، والثاني الاحتكاك الذي حصل فيما بعد أثناء الحروب الصليبية. وقد ظهرت هذه التأثيرات في بيروت قبل سنة 1840 وما بعدها.

أباحت الطرق الصوفية لا سيما في زوايا بيروت السماع والموسيقى لأنها تقود للوجد، وبقيت كذلك في بيروت لما قبل سنة 1860 وما بعدها وكانت سائدة ورائجة في بلاد الشام قبل الفتح العربي ويسود الاعتقاد بأن الله أوحى الى مخلوقاته جميعها: الإنسان والطير والحيوان والشجر أن تردد نشيداً عاماً تسبّح الله به. واستعار الصوفية الأعاريض الفصيحة والعامية والمولدة التي اعتمد البعض فيها على أصول مخمس تركي، مستهلّين القصيدة أو الموشح بذكر عروضه وهو الوزن الغنائي الشعبي المنظم على مثاله (أي على قده). وكان لكل موشح نغمة إيقاعية خاصة به يؤدّى في حلقات الذكر، من هذه النغمات: نوى وركب وحجاز ورست وسيكاه وحسيني الخ...
وكان لبيروت ألوانها الغنائية المشابهة للألوان الرائجة في المدن العربية.
الموّال نظم وغناء أهل بيروت
الموال بيت من الشعر المقفى الموزون وهو على أربعة أشطر أو خمسة أو سبعة، الشطران الأولان في الخماسي من قافية واحدة مع اختلاف بالمعنى، والثالث والرابع من قافية مختلفة، وقافية الخامس مثل الأول والثاني، وأول ثلاث شطرات في السباعي من قافية واحدة والثلاثة الثانية من قافية مختلفة، أما السابع فمثل الثلاثة الأولى. والموال على وزن البحر البسيط: «مستفعلن فاعلن مستفعلن فعلن». وقد تأتي فيه بعض الكلمات العامية كلفظ القاف كالجيم المصرية والكاف شينا (باشي باكي) ودرج المنشدون على ترديد بعض الألفاظ بين شطر وآخر مثل: «آمان يا يابا» أو «ويلي» أو «آمان يا ربي» و«يا عيوني» الخ... ويعتبر الموال غناء البيارتة، مسلمين ومسيحيين، وهو يخلو من ذكر الناطور ومزراب العين وعنزة أبو طنوس و...
تميّزت بيروت بثلاث فئات من منشدي الموال. الفئة الأولى هي التي نظمت المواويل أمثال المفتي عبد الطيف فتح الله والمفتي أحمد الأغر وأحمد الطرابلسي وشعيب العيتاني وعمر الانسي والسيد حمد وأحمد رمضان وحسن الصيداني وجميل جمعة وإبراهيم كريم وإبراهيم الحوراني ومحمد رضوان. والفئة الثانية أصحاب الأصوات الجميلة الذين غنّوا الموال ومنهم فرج الله وإيليا بيضا وإلياس ربيز ومحي الدين بعيون والكسندرا بدران (نور الهدى) وداود قرانوح. أما الفئة الثالثة فهم الرواة فمنهم أبو سليم المناصفي ومحمد علي دردر وسعيد حمد وأحمد مصطفى العيتاني وأبو إبراهيم العيتاني ومصطفى الفاخوري (والد الكاتب). وقد استمر نظم الموال وغناؤه أثناء الانتداب الى أن تراجع رويدا رويدا لحساب ألحان وأغنيات خاصة بالضيعة الجبلية. وكان البيارتة يستضيفون فرج الله بيضا أياما وليالٍ في عرزال بكرم تين لآل شاتيلا في الروشة وكان عندما يتسلطن يُسمع صوته في محلة الأوزاعي.
ويبدو ان أحد الشبان المسلمين أحبّ صبية من أهل جيرانه، والحب لا يعرف الطائفية ولا المذهبية (لم يكن قد طرح الزواج المدني الإلزامي أو الإختياري) واستحال عليه أن يكلمها في ذلك الزمان الجميل، وشكا أمره لمفتي بيروت وقاضيها الشيخ أحمد الأغر، فنظم هذا الأخير الموال:
لم أدرِ كيف وصولي للجميل يـا ناس
أَأصحب القسّ والخوري أم الشماس
أم ألزم الديــر حتــى يحضــر القداس
عسى بصدق اعترافــي أمنح القربان
أم انتظر عرّفوني: عيد مـار إلياس؟
{ وغنّى إيليا بيضا:
يا جبهة العرب ماضي العزّ هاديكي
أذكى التحيات والأمجاد هاديكي
كم علم البحر زأر الموج هاديكي
كوني بوجه الزمان وفورته جبهات
ما يوم جيشك رجع مدحور من جبهات
ابني بوجه البسيطة وأهلها جبهات
الفادي فداها وهداها وحي هاديكي
{ وغنّى إلياس ربيز:
خد لك من الناس صاحب ما يخونك أبي
ان غبت يحضر وإذا وافاك حيّا وبي
إياك تطلب من الدنيا صاحب أبي
تذبح لك غراب ولغيرك كبش وآدم
ذم المنازل بعد عيش الهنا وآدم
من جنة الخلد حوا أخرجت آدم
من أمي حوا سبب كربي وآدم أبي
{ ونظم إبراهيم الحوراني سنة 1916 موال رباعي:
يا مفرد الحب ما لي في الهوى ثاني
ومهجتي عن جمالك ما لها ثاني
اسقي بدمعي ورودك والسِوى جاني
علي تجني وقلبي يعشق الجاني
{ وغنت نور الهدى موال أوله: يا رب سبّح بحمدك كل شيء حيّ. وموال: يا مدبر الكون ويا عاطي الخلايق نعم.
الآلات الموسيقية والمطربون في القرن التاسع عشر
لكل شعب ألحان ونغمات يستعذبونها ويلجأون إليها عند السرور والفرح وفي الأعياد والمواسم والأعراس والمآتم، وفي الحضر والسفر والبر والبحر، وقد أنشدها الرجال والنساء، كما ردّدها الصغار والكبار وأهل الطريق وقطاع الطريق. وراجت في بيروت أغنيات وألحان كانت رائجة ولا يوجد ثبت بأسماء مغنين بيارتة ولكن ثمة إشارات متفرقة الى الآلات الموسيقية المتداولة حينئذ والى بعض المغنين الذين مرّوا في المدينة أو كانوا من أهلها. ويتبيّن من الأشعار التي نظّمها مفتي بيروت الشيخ عبد اللطيف فتح الله ومفتيها وقاضيها الشيخ أحمد الأغر وعمر الأنسي وقاسم أبو الحسن الكستي أن الآلات التي كانت معروفة في المدينة هي: العود والسنطير والمزمار والدف والناي والقانون. ذكر المفتي فتح الله شادٍ كان يتغنّى على العود وآخر غنّى على القانون وثالث غنّى والدف في كفّه. وحضر الشيخ أحمد الأغر سنة 1845م جلسة أنس سمع فيها القانون والطار والمزمار. أما نصوص الأغاني الشعبية التي كانت سائدة في القرن التاسع عشر وأوائل العشرين فستكون مادة مقال لاحق. قَدِم يوسف بن فتحي العش الدمشقي سنة 1802م من دمشق وكان عالماً بالموسيقى وله صوت رخيم، ونزل ليلة ضيفاً عند المفتي الشيخ عبد اللطيف فتح الله وأسمع الحاضرين بعض أغانيه. وحضر عمر الأنسي مجلس أنس غنّى به منشد حسن الصوت اسمه عطا.
ويبدو أن أجمل صوت عرفته بيروت في منتصف القرن التاسع عشر كان صوت صالح إدريس صاحب بستان وجنينة إدريس التي أعطى اسمه الى أحد أبواب بيروت واحدى محلاتها، قال المفتي الشيخ الأغر فيه سنة 1816:
بششت من بعد تقطيبي وتعبيسي
وكدت أن اقتـــدي فرداً بإبليس
سكنت حركتي وقمت أقعدني
صحوت أسكرني صوت ابن إدريس
وذاعت في بيروت شهرة المطرب حنا السيقلي، قال المفتي أحمد الأغر يصفه:
مجلسنا فيــه بدا
غصن التهاني ينجلي
وحنّ محنياً كما
يحنّ حنّــــــا السيقلي
وطرب البيارتة لأصوات مطربين آخرين كحليم النحاس وبولس صلبان واسكندر سيقلي والمطرب السودا الذي غنّى سنة 1900 قصيدة منها:
يا من هواه أعزّه وأذلّني كيف السبيل إلى وصالك دلّني
وختامها:
فلأقعدن على الطريق وأشتكي وأقول مظلوم وأنت ظلمتني
ولأدعَونّ عليك في غسق الدجا يبليك ربــــــي مثلما ابتليتني
البحر وبيروت.. الجار والدار
ولم تغب حكايات البحر عن ذاكرة أهل بيروت، كانت السباحة من الهوايات المحببة وكانت للنساء مسابح خاصة منها بحر زكية التي كانت زكية الغريب تتولى فيه تعليم السباحة للصغار وللنسوان اللواتي كن يسبحن بقمصان النوم، وكانت تنصب شوادر لإبعاد النساء عن عيون المتطفلين مكتوب عليها: شكحظة (أي مسدود). والبحر في عرف أهالي بيروت غدار قال الشاعر:
لا اركب البحر خوفاً عليّ منــــــه المعاطب
طين أنــــا وهو ماء والطين في الماء ذائب
وقد غدر بحر رأس بيروت ببعض شبان المحلة فجرفهم التيار وأغرقهم، وكانت النسوة اللواتي فقدن أحبتهن يقفن عند الشاطئ في شوران ويرددن: مثل ما اخدتو جيبو يا بحر شوران.
ودخل بحر شوران في أغنية «أوف مشعلاني» فقالوا:
أوف مشعل أوف مشعلاني مع السلامة يا بحر خلّاني
أوف مشعل راح وخلّاني
راح وتركني ع بحر شوران
وكان لأحمد الداعوق عرزال تجاه مقهى دبيبو ينشد الموال: «قلت له: يا بحر، قال لي اشبك وليه؟ قلت له: حبيبي راح فيك بالنبي هاتو، قال لي: روح تحسّر يا صبي حبيبك مات وفنيت عضماتو». وغنّوا مع أمين حسنين «مررت بالبحر». كما غنّوا لشارل دباس: «بدنا بحرية يا ريس».
وأثر انتصار الثورة الشيوعية ظهرت عند ساحل بيروت قرب مقهى الحاج داود سمكة لم تكن معروفة فسمّوها بلشفيك (المواسطة).
وارتبط بحر بيروت بأسماء محلات مثل: جلّ البحر والتحويلة والمغاريق التي أخذت اسمها من عدة أشخاص لقوا حتفهم غرقاً عند شاطئها. ومحلة شوران( جمع شور) ونميل الى أن هذه المحلة أخذت اسمها من الملاحات التي كانت تجمع مياه البحر في صخورها.
التأثّر في التصوير والرسم
الأيقونة لفظ يوناني معناه الصورة والرسم. وقد نشأت عند المسيحيين فرقتان: واحدة تحرّم تصوير المسيح والقديسين والثانية تجيز ذلك. سمّى أسد رستم الخلاف بـ«حرب الأيقونات»، وذكر ان بعض الاختصاصيين يرى ان القرآن حرّم الأنصاب والأصنام ولكنه سكت عن الصور والرسوم، وان تحريمه جاء في الحديث فقط. ومما تجدر مناقشته ما إذا كان نصارى الجزيرة في عهد الرسول كانوا من أنصار التحريم وما إذا كان المسلمون قد تأثّروا بهم في ذلك?

* مؤرخ