من يراجع ما كُتب في تاريخ بيروت الاجتماعي والاقتصادي والعمراني يظهر له كيف نقل الكتّاب بعضهم عن بعض دون أي تحليل منطقي أو تاريخي يفرضه قواعد علم التاريخ الذي ينطبق عليه ما وضعه علماء الحديث الشريف بما عرف بمصطلح الحديث من تدقيق في النص لغة ومعنى وتفسيرا ناهيك عن الجرح والتعديل.
وقد لاحظنا ان الكتّاب درجوا على سرد أسماء أسواق بيروت كما سمعوها أو قرأوها دون بذل أي تدقيق. ما أدّى الى تغييب أسواق قديمة (سنفرد لها مقالا خاصاً) كسوق الصبّانة وهو موضوع هذا المقال.
فبموجب الوثيقة المؤرّخة في الثامن من شهر محرم الحرام سنة 1098هـ/ 1686م «اشترى الحاج مصطفى ابن الخواجه محمد الشهير نسبه بابن القصار من المدعو الحاج سيف الدين ابن الحاج علي العالية الشهير بالسقعان جميع البنيان البارز عن قناة الصبانة القديم الذي كان عمّره وبناه البائع وذلك جميع الحانوت الكائن في سوق الصبّانة المشتمل على سقف مسقف بالأخشاب وإغلاق ورفوف مسمّرة المحدود قبلة الطريق السالك وتمامه البركة وشرقا حانوت وقف قفة الخبز وشمالا وقف بني الكباس وغربا حانوت وقف بني الكباس بثمن قدره أربعة عشر قرش فضة أسدية قاصص البائع المشتري بالثمن ماله من ثمن أرزّ.
وبعد إتمام البيع أشهد الحاج مصطفى على نفسه انه أوقف جميع الحانوت المرقوم وجعله وقفا على مصالح البركة الكائنة تجاه الحانوت التي انشأها الواقف المذكور واشترط على ان جميع ما يتحصل من أجرة الحانوت يصرف على مصالح البركة...».
تتضمن هذه الوثيقة معلومات عمرانية واجتماعية هامة، منها وجود سوق قديمة في باطن بيروت بإسم سوق الصبّانة. ومنها ان البائع كان سيف الدين ابن الحاج علي العاليه الشهير بالسقعان ما يمكن القول بان الحاجعلي العاليه قد يكون هو أول من لقّب بالسقعان علما بان الصقعان لغة البردان لقّب بها من عاد من الحرب في صقيع روسيا. وكانت هذه الشهرة ترد أحياناً بالصقعان على طريقة البيارتة في لفظ السين والصاد (كما بين السور والصور) والقاف في الصعيد المصري تلفظ جيماً فتصبح الشهرة في بيروت سجعان ضمّت إليها الانسي فغدت الانسي السجعان، وهذه الأخيرة جمعت بين الشقيقين الشاعر عمر الانسي ومحمد بك السجعان.
كما تفيدنا الوثيقة أيضاً بقدم وقف قفة الخبز في بيروت، وكانت هذ القفة في القرن التاسع عشر توضع في دكانة تجاه الجامع العمري الكبير عند صلاة الجمعة فيأخذ الفقير منها مجاناً حاجته من الخبز. كما تعلمنا الوثيقة الى جانب سوق الصبانة بوجود بركة أوقفت لحاجة أهل السوق والمترددين عليها.
موقع سوق الصبّانة
لتحديد موقع سوق الصبّانة باطن بيروت القديمة نستعين بعدّة وثائق منها الوثيقة المؤرخة في السادس والعشرين من شهر ربيع الثاني سنة 1260هـ/ 1848م التي نمّقها بخطه السيد عبد القادر نجا نائب القاضي في بيروت (وهو طرابلسي لا صلة له بآل نجا البيارتة) والتي بموجبها باع ريحان العبد مولى عبد الفتاح آغا حمادة الى الخواجه فتح الله ولد إلياس التاجر الحلبي الأصل جميع العمار الذي جدّده البائع في قطعة الأرض المحتكرة، يحتوي العمار على مربعين وايوان وأوده مرسومة بدون سقف ومطبخ ومرتفق وفسحة جنينة الكائن ذلك بمحلة الأمير قاسم في أرض جنينة المدخن تجاه المصبنة القديمة الشهير ما ذكر باطن المدينة... وقد علم المشتري بما هو مرتب على قطعة الأرض من الحكر الشرعي في كل سنة لجهة وقف جامع الأمير منذر وقدره مائة غرش يدفعها في كل سنة لجهة وقف الجامع المحرر لمتولي الجامع كائنا من كان...».
وورد في جدول أوقاف جامع الأمير منذر «ذكر دار كائنة في حارة الرصيف المعروفة بحارة المصبني لصيق الجامع المحرر تحتوي على ثلاث غرف يتوصل إليها من باب وزقاق واحد المعروف بجيرة أدار الكادك أي بجوار (قرأها بعضهم بحيرة دار الكاويك).
وتشير الوثيقة المؤرخة في السادس والعشرين من شهر شعبان سنة 1280هـ/ 1864م الى وجود مصبنة بني بيهم والعيتاني في سوق باب السراي قرب زاوية الإمام الأوزاعي.
ومن المصابن المشهورة داخل المدينة المصبنة الكائنة آخر سوق باب يعقوب أسفل خان طاسو (المشتمل على خمس وعشرين أوده واحدة مسقفة والباقي معقودة) المشتملة على قبو معقود به موقد وبركة لجمع الماء وخلقين وأحواض وفسحة معقودة برسم مخزن تلاصق المصبنة مفتوح لها بابان مغروس بها أربع خوابي افرنجية...» يذكر ان حسن الغندور وحسن القاضي اشتريا سنة 1286هـ/ 1869م أسهماً شائعة في الخان والمصبنة المذكورين. (وقد سبق للصديق المهندس المعماري غبريال اندريا ان وضع تصميماً لخان طاسو).
مصابن خارج البلدة
وجدت عدة مصابن خارج البلدة منها ما ذكرته الوثيقة المؤرخة في 29 جمادى الثانية سنة 1282هـ/ 1865م التي اشترى بموجبها الخواجه فارس جبور طراد من حبيب واسكندر ونقولا وجنة الخوري إلياس زخريا وكاترينا يعقوب الجبيلي قطعتي أرض في مزرعة المصيطبة في أحدها عمار يحتوي على سبعة أماكن مسقفة وعلى أودة معدّة لعمل الصابون وبئر ماء نابع. ووجدت مصبنة في خان الكنفاني خارج المدينة.
وذكرت محلة المصبنة خارج المدينة قرب أرض الكبانية في مبايعة تمّت سنة 1284هـ/ 1867م.
وكان من ضمن أملاك إلياس جبور سرسق داران في محلة الصيفي شرقية وغربية، وهذه الأخيرة مصبنة مؤلفة من سبع أود معقودة وفسحة مبلطة.
وحتى الأربعينيات من القرن العشرين كانت مصبنة البحري الوطنية تنتج من صابون بيهم ماركات تدمر وبيهم مطيّب وبيهم غار.
الفنون في أشكال الصابون
اشتهر من الصبّانة أحمد فانوس بما اخترعه من مستحضرات. منها دهون لإتلاف البق وصابون يزيل الأوساخ والأدهان وصبغة للوجه المعروفة بالحمرة للنساء سمّاها «ضوء القمر» ودهون لإزالة النمش والكلف والحبوب والبثور، ما دعا الشيخ قاسم أبو الحسن الكستي لأن يشهد لفانوس قائلاً «ان علامة الاختراع النافع يُعدّ من بدائع الصنائع وبها يفوز الإنسان بكسب المال والثناء وتجب له الكرامة والاعتناء من أبناء جنسه، وربما توصل بذلك الى منزلة لم يكن في أمله أن يرقى إليها وقد يدرك المرء باجتهاده وجدِّه ما لم يصل إليه جدّهُ، ومن اختار الكسل لم يلعق العسل، وان ممن نبغ في عمل الصابون على أنواع شتى السيد أحمد فانوس البيروتي فأتى في اصطناعه بالعجب العجاب فمنه ما يزيل الأدهان والدرن، ومنه ما ينقي بشرة الوجه والبدن، ومنه ما له طيب الرائحة وغير ذلك مما هو مستحسن عند ذوي العقول، حتى انه شارع في عمل صابون يزيل الشعر إذا طلبت إزالته بكل سهولة بدون غائلة، وحيث ان كل محسن يجب له الذكر الجميل، فقد أبدينا بحقه هذه المقالة لتعلن في الجرائد المحلية فتعلم حقيقة حاله وترغب الناس بأعماله، فعسى أن تكون عاقبة صنعته جالبة لثروته، ومنه تعالى التوفيق».
* مؤرخ