بيروت - لبنان

اخر الأخبار

2 تشرين الثاني 2019 12:03ص أيام بيروتية (1).. مسلمون ونصارى على مركب من جلّ الّديب إلى عكا بقيادة يعقوب الحلبي

حجم الخط
جاء في رسالة المفتي الشهيد الشيخ حسن خالد في شهر رمضان (أيار 1984م) عن النبي  صلى الله عليه وسلم انه قال لمعاذ رضي الله عنه «يا معاذ إن الله عزّ وجلّ سيفتح عليكم الشام من بعدي من العريش إلى الفرات رجالهم ونساؤهم مرابطون الى يوم القيامة فمن اختار منكم ساحلاً من سواحل الشام أو بيت المقدس فهو في جهاد الى يوم القيامة».

أذكر هذا الحديث كلما سألت أحد البيارتة عن أوراق أجداده وسجلاتهم ومذكراتهم، وظننت انهم لم يحتفظوا بها إهمالا منهم أو اقتناعا بعدم الفائدة منها مع ان القاعدة تقول إذا ضاعت الأصول ضاع التاريخ معها، فتاريخهم لا يقوم إلا على الآثار التي تركتها أيدي الأسلاف وعقولهم. وغاية تراثهم فهم حاضرهم وتوظيف المفيد منها لمستقبلهم.

خلط البعض بين الدار وساكنه، ولم يدر ان لا ذنب للمنزل إذا لم يسكنه رجل شريف والمدينة إذا لم يلها والِ عادل وليس من خوف الجوع على السمكة ان جعل لها طعم في الشبكة. ان الشباب لا يأخذ من تراث آبائهم ولا يصيبون من تقاليدهم إلا كما يأخذ الاسفنج من الماء ينتفخ بقليل منه ثم لا يلبث أن يمجه أو يتطاير منه ولا يثبت فيه شيء.

ولكن عندما تتبّعت ما تعرّض له ساحل بيروت وثغرها من حملات غزو وتدمير وتخريب وقتل أهلها ونهب أرزاقهم فضلاً عن إجبارهم على الخروج من بيوتهم خوفاً من اعتداء أو وقاية من وباء، عندما تتبّعت ذلك أدركت ان الطبيعي أن يكون آخر همّهم حمل وثائقهم وآثار أجدادهم، و ما بقي لدى بعض العائلات من وثائق قليلة كان من قبيل الصدفة أو كان بعضه عنعنة لا سند لها كإدّعاء النسب الشريف أو الزعم بالمشاركة في حملات صلاح الدين الأيوبي، أورد البعض أصله الى المغرب أو المشرق أو الجزيرة العربية، وكل ذلك شطط في التفكير وهرولة في الاستنتاج للوصول الى القصد المرسوم والغاية المرجوّة.

تسألين عن سقميصحتي هي العجبُ

مراجعة واقعات بيروت

ومن المعلوم ان الزمن تقسيم إنساني محض يلائم وجود الإنسان وفناءه على هذه الأرض وإلا فليس في الحقيقة أزمان تبتدئ وتنتهي، وقد ساعدتني متابعة ما تعرّض لها البيارتة على التثبّت وعاونتني على الاستيثاق وعلى الإحاطة بالموضوع من سائر أقطاره وكل نواحيه وجميع جوانبه ويجد القارئ ان الأمر يستأهل الوقفة المتأنّية والتفصيل المطوّل والتحليل المستقصى. ذلك ان أكثر من يكتب في تاريخ هذا الساحل إنما يعتمد على الشائعات ولا يقرأ ولا يدرس ولا يمحّص، فالاختلاف أو التباين أو التمايز لا يأتي فجأة ولا يظهر بغتة ولا يرتفع على غرّة بل يتدرّج ويتأنّى ويتمرحل (مرحلة بعد أخرى).

من الصحيح ان هذا الساحل عرف طوائف شتى ومشارب متنوّعة واتجاهات مختلفة وخضع لسلطات عديدة ولكن الباحث المستقيم لا يكيل بكيلين ولا يزن بميزانين ولا يقيس بمقياسين فيرفض أمرا أو يسلم به، وإلا هو النفاق الفكري والالتواء البحثي الذي تأباه قواعد البحث والموضوعية. فثمّة وقائع لا ينكرها إلا معاند ولا يرفضها إلا مشاكس ولا يماري فيها إلا لجوج.

والتاريخ لا يكون بالافتراض ولا بالتحكم وهو يعرض بالأدلة الثقيلة والنقلية وملاحظة ما سبق وما لحق واستنباط النتائج من المقدمات، ولم يلتفت كثيرون الى الفترة التي سبقت إنتهاء الحروب الصليبية والتي تلتها فهذه الفترة نسمّيها «الحقبة الغامضة» في تاريخ بيروت لان مؤرّخي تلك الفترة غلب عليهم التحيّز والكره والنتيجة مرتبطة بمقدماتها وهذه المقدمات لا تستدعي إلا أسبابها.

وتبيّن لنا من مراجعة واقعات بيروت ان المدينة وأهلها تعرّضوا الى عدة غزوات من شعوب ودول عديدة منهم من كان يريد الوصول الى المياه الدافئة ومنهم من كان ينوي نهب خيرات المنطقة ومن من يتخذ تعليم الناس ذريعة للتدخّل في شؤونها وبث الفرقة بين ابنائها ومنهم من يزعم حماية بعض الفئات من خوف غير حقيقي. وقد نالت هذه الغزوات من أرزاقهم ومن حياة أبنائهم والزمتهم في بعض الأحيان على ترك بيوتهم وأموالهم والخروج منها. كما ان الأوبئة وفرض نطاق صحي على المدينة كان أجدادنا يسمّونه كوردون من الفرنسية cordon، أسهم في تركهم منازلهم لشذاذ الآفاق. ثم أتى حين من الدهر فضّل المعتدون بدل تجريد حملات عسكرية وتكبّد نفقات كبيرة جعل أفراد الشعب يتقاتلون بين بعضهم ودفعهم لطلب الحماية والمساعدة كما فعل المعنيون والشهابيون.

وحفظ لنا التاريخ بعضاً من هذه النكبات التي حصلت في السنوات 1299 و1334و1382 و1403 و1520.

نذكر أولا ما رواه مؤرّخ بيروت صالح بن يحيى ان مراكب كثيرة للفرنج فيها جماعة من المقاتلة وصلت من جنوى الى بيروت في كل منها نحو سبعمائة وقصدوا الطلوع من المراكب الى البر فلما قربوا من البر أرسل الله عليهم ريحاً قوية أغرقت بعض السفن وعاد من سلم منهم على اسوأ حال.

حملة ثانية من سفن جنوى على بيروت

ويفيدنا صالح بن يحيى على حملة ثانية من حملات جنوى المتكرّرة على بيروت، فيذكر ان السفن الجنوية نزلت بيروت يوم عيد الأضحى سنة 734/1333م يوم كان متولي بيروت عز الدين البيسري من قبل تنكز ائب الشام فقاتلهم البيارتة قتالا شديدا لمدة يومين الا ان الجنويين تمكنوا من دخول الميناء واستولوا على المراكب وانزلوا الأعلام السلطانية وقتل العديد من الرجال وقد أعاد صالح بن يحيى الهزيمة الى تقاعس أمراء الغرب وتركمان كسروان فتمّ استدعاؤهم الى دمشق ومعاقبتهم.

يعقوب الحلبي

روى عبد العزيز سيد الأهل في كتابه «أيام صلاح الدين» عن ميزة أهل بيروت في بطولة الجهاد فنقل عن النوادر السلطانية ان بيروت أرسلت مركبا عظيما شحنته بزهاء ستمائة وخمسين رجلا من رجالها تزيّوا بزيّ الفرنج وسيّرته الى عكا إلا ان العدو فطن الى المركب عند دنوه من عكا فحاصره أربعين مركبا وقذفته بالنيران فلم ييأس رجال بيروت ولا ذهلوا وقتلوا العديد من عدوّهم وعندما أوشكت المراكب على النيل من مركب بيروت قام قائده «يعقوب الحلبي» بإغراق المركب (قد يكون يعقوب الحلبي هذ هو الذي أطلق اسمه فيما بعد على أحد أبواب بيروت المعروف بباب يعقوب).

ويتقاطع هذ الخبر مع ما ذكره الأستاذان أحمد العبادي والسيد سالم في كتابهما «تاريخ البحرية الإسلامية في مصر والشام» «ان بيروت كانت قاعدة الاسطول الشامي وكان يوجد على سواحلها في مكان يسمّى الزيب أو الذئب (هو اليوم جلّ الديب) طائفة من المسلمين يجهزون السفن الداخلة الى عكا ويقطعون الطرق على الفرنج وان متولي بيروت جهّز بطسة (مركب كبير الحجم يتألف من عدة طوابق ومزوّد بعد كبير من القلوع يستعمل لنقل الزاد وجموع كبيرة من المحاربين) ورتب فيها رجالاً مسلمون ونصارى من أهل بيروت وانطلقت حتى دخلت عكا».

 * مؤرّخ