بيروت - لبنان

اخر الأخبار

1 شباط 2020 12:03ص أيام بيروتية (13): إبراهيم باشا يستدعي مفتي بيروت الشيخ أحمد الأغر إلى دمشق

حجم الخط
كان الحكام يستقطبون الفقهاء قضاة ومفتين لخبرتهم وتأثيرهم على العامة من جهة وللحصول على فتاوى توافق هواهم من جهة ثانية. ومن المتداول ان مجالس السلاطين كانت تحفّ بالفقهاء والشعراء والأدباء وان مجالس هؤلاء قلّما حضرها سلطان أو أمير. وكان كثيرون يتزاحمون للتقرّب من الحكام طمعاً بمغانم النفوذ رغم ما يواكب هذا القرب من مخاطر العزل والعقاب والغرم، فنجاح الحاكم معزو لمواهبه وقدراته ونظرته الثاقبة وفشله تحمل البطانة مسؤوليته، مع أن البطانة كانت دائماً جزءاً متمّماً للأصل. وقد أتى زمن كان فيه مستشار الحاكم يتحمّل الوزر كله حتى صحّ ما قاله شاعرنا عمر الأنسي الصقعان:

معاشر السلطان شبه سفينةٍ

في البحر ترجف دائماً من خوفهِ

وفي نصيحة من المفتي الشيخ عبد اللطيف فتح الله لمن يصاحب الملوك:

إن صحبت الملوك فاصحب لخير

وتجمّل من التقى خير ملبس

وكن الدهر عندهم ذا تغابٍ

                                 ثم أعمى أصمّ أبكم أخرس

إلا ان التاريخ لم يشهد إلا لقلّة ممن جاهر بكلمة حق في وجه السلطان الجائر وكان مفتي بيروت الشيخ أحمد الأغر من هؤلاء.

فتوى الشيخ أحمد الأغر 

ضد إبراهيم باشا

بقيت في ذاكرة البيارتة عدة واقعات من فترة حكم إبراهيم باشا، منها تعرّض مفتي بيروت الشيخ أحمد الأغر لما يتعرّض له من يتولّى الإفتاء ولا سيما عندما يطلب من المفتي فتوى توافق هوى الطالب ولو خالفت الشرع ويكون هذا الطالب من الولاة والحكام وفي فترات حرجة من التاريخ.

روى جرجس الخوري المقدسي عن أحد المسنين من رأس بيروت، حادثة تتعلق بإبراهيم باشا وملخصها أن إبراهيم باشا كان يعتمد على تاجر دمشقي لتموين عساكره بما يحتاجون من مواد غذائية. في آخر السنة طلب التاجر رصيد حسابه فرفض الباشا تسديد مطلوب التاجر، متذرّعاً بأن هذا الأخير زاد في الأسعار. استاء التاجر وحاول عرض قضيته على أصحاب الرأي في دمشق، فقالوا له انه على حق ولم يجسر أحد منهم على إصدار فتوى ضد الباشا. وقيل للتاجر ان في بيروت شيخاً فقيهاً جريئاً هو الشيخ أحمد الأغر مفتي بيروت جرّب أن تستفتيه، فلعلّك تحصل على ما يؤيّد حقك. وبالفعل قصد التاجر المفتي البيروتي وعرض عليه قضيته مع الباشا. فأفتى للتاجر ضد إبراهيم باشا وأن على هذا الأخير دفع ما يتوجب للتاجر. حمل التاجر الفتوى وقدّمها لإبراهيم باشا طالباً التسديد. فاستاء الباشا وأرسل بطلب المفتي إلى الشام. فلما حضر عاتبه على إصدار الفتوى ضده. فأجابه: يا حضرة الباشا لست أنا من أفتى ضدك بل كتاب الله. وشرح له الحكم الشرعي مدعماً بالنصوص الشرعية والفقهية. فاضطر إبراهيم باشا للسكوت وأدّى الحساب للتاجر مكرهاً.

ويظهر أن الباشا أراد التحقق من حال المفتي، فعمد إلى زيارة بيروت بعد مدة من الحادثة، وطلب رؤية المفتي في بيته، فأخذوه إليه ودخل إلى غرفة المفتي البسيطة، فوجده يقرأ في كتاب الله. ولاحظ الباشا أن المفتي لم يحفل بالزائر، بل ظل متابعاً قراءته، ويظهر أن رجل المفتي كانت ممدودة في حينه بسبب المرض. وغادر الباشا بيت المفتي وأرسل مع مرافقه صرّة من النقود هدية للمفتي. فلما جاء مرافق الباشا لبيت المفتي وعرض عليه الصرّة قال المفتي: قل للباشا يلّي بمد إجرو ما بمد إيدو.

وقد نزل الأغر في دمشق في دار آل الغزي ونظم خلال إقامته بيتاً مفرداً هو:

يا رب طالت عليّ غيبة الفرج

عني فمره بإسراعٍ إليّ يجي 

وعرض المفتي بإبراهيم باشا فقال مقتبساً «ان الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها»:

مليكة الحسن قد أفسدت قريتنا 

عند الدخول إليها هل يجوز كذا 

وقد جعلت أعزاها أذلّتها

قالت وذا شأن الملوك إذا

وطلب منه وهو في دمشق تشطير البيت: ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى عدواً له ما من صداقته بدُّ، فشطره على الارتجال بقوله: 

ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى  صديقاً بدا منه لأعدائه ودُّ

وأنكد من ذا أن يرى وهو صابر    عدواً له ما من صداقته بدّ

البطانة بطّالة

من المعروف ان بطانة الحاكم تضرب حوله سوراً أقوى من سور الصين العظيم، فهي منّاعة للخيال التحية والولاء ولا تدع أحداً يقترب من الحاكم كالبطانة التي رافقت إبراهيم باشا. ذكر شفيق طبارة «ان إبراهيم باشا استقبل في سراي بيروت وجهاء المدينة وتجارها لتقديم التحية والولاء وكان من بينهم شخص يدعى الدحداح حدّث الباشا عن معمل النسيج الذي أنشأه خارج السور في المحلة المعروفة بالدحداح ودعا الباشا لزيارة المعمل ووعده الباشا بتلبيته وفي الموعد المحدّد حضر الباشا وحاشيته الى المعمل وصار يتأمّل إنتاج المعمل من النسيج وعرض قطعة منه على حاشيته مظهراً إعجابه، فقال بعضهم حسداً ان وجه القماش (أي لحمته) من الحرير ولكن قلبه (سداه) بطّال لأنه من القطن. فالتفت الباشا الى الدحداح وأخبره بقول البطانة فقال الدحداح مورياً ومعرضاً بالحاشية «يا باشا ان الوجه والقلب هما من الحرير ولكن البطانة (الحاشية) هي البطّالة لأنها من القطن».

(يذكر أن محلة الدحداح كانت مواجهة شرقاً لمبنى وزارة المالية الحالية في شارع بشارة الخوري. وفي دمشق مقبرة معروفة بمقبرة الدحداح تنسب الى الصحابي أبي الدحداح، وفي الحديث كم من عرق رداح لأبي الدحداح في الجنة ولم يثبت بعد أن أبا الدحداح زار بيروت بعد الفتح؟؟).

كل قطعة حلوى بكرباج

شاع في بيروت منذ حكم إبراهيم باشا لها نوع من الحلوى يعرف بالكرابيج لا يزال معروفاً حتى اليوم. وحكاية ذلك أن رجلاً عصى أمر المتسلم، فرآه ضابط البلد وكان فظّاً فصفعه ثم ضربه عشرين عصا حتى سال الدم من رأسه. وبلغ ذلك الباشا فغضب وأمر بإحضار الضابط فجيء به ووقف بين يديه. ثم أمره بالجلوس وضرب الباشا براحة يده على الأخرى فأقبل عبد أسود يحمل طبقاً فيه عشرون قطعة حلوى وضعها بين يدي الضابط. فقال له الباشا: كُلْ، فتناول الضابط قطعة ودسّها في فمه. ثم قال له: كُل. فأكل قطعة ثانية. ودعاه الباشا أيضاً فأكل الثالثة والرابعة فالخامسة. ثم التفت الى الباشا وقال «يا مولاي» ان طاعتك واجبة في المحبوب والمكروه ولكن ليس لي إلى الزيادة من سبيل. فقال الباشا لن تخرج من هنا إن لم تأكل ما في الطبق كله. فقال الضابط أطال الله بقاءك أنا لا أستطيع أن آكله وإن أكرهتني متّ لا محالة. فهزّ الباشا رأسه وقال: أرأيت كيف لا تستطيع ولا تطيق أن تأكل من الحلوى فوق طاقتك، فما ظنّك بالرجل الذي أشبعته ضرباً وأطعمته عشرين كرباجاً من خيزرانتك؟ وأخذ إسم الحلوى المذكورة كرابيج حتى اليوم.

انصرفوا ثلاثة من دكان الزيدانية وعاد إثنان

ذكرت وثيقة تعود لسنة 1880م أن تقلا بنت نقولا غريغوريوس العكاوي وكلّت الخواجا سليم ميخائيل جرجي الخوري العقاد ببيع ستة قراريط من «كامل قطعة الأرض المعروفة بالزيدانية في محلة المصيطبة خارج بيروت...» وقد تكون هذه الأرض منسوبة لرجل إسمه زيدان أو لمن لقب عائلته زيدان، وهي الآن إسم لمحلة كبيرة تقع فيها دار الفتوى.

روى اسكندر ابكاريوس أن رجلاً مرّ من رأس بيروت بأرض الزيدانية فوجد قتيلاً غارقاً في دمه. فأخبر رجال إبراهيم باشا الذين حضروا الى موقع الجريمة وتبيّنوا من ثياب القتيل أنه غريب عن البلد وقبضوا على عشرة رجال من أهالي المحلة وحبسوهم. وفي اليوم التالي عندما حضر الباشا من دمشق وأعلمه المتسلم بالأمر فأحضر الموقوفين الى مجلس الباشا فاستجوبهم وأطلق سراحهم. وأرسل باستدعاء أصحاب الدكاكين والحانات في الزيدانية. فأحضروا رجلين منهم. اختلى بأحدهما وسأله عما إذا كان قد مرّ به قبل يومين رجل غريب، فنفى وسأل الثاني فقال نعم حضر الى دكاني ثلاثة رجال غرباء وطلبوا طعاماً وشراباً واحتسوا خمراً حتى أظلم الليل وانصرفوا، وفي الصباح عاد منهم إثنان. فأمره الباشا أن يذهب مع ضابط البلد للتفتيش عن الرجلين في الخانات. وما هي إلا ساعة حتى أحضر الإثنان وسألهما الباشا عن رفيقهما وهدّدهما، فأقرّا بفعلهما وأنهما قتلا رفيقهما طمعاً بماله الذي كسبه منهما من لعب القمار في دكان الزيدانية.

فأمر بإعدامهما وبإقفال دكان الزيدانية الذي بقي مقفلاً حتى خروج إبراهيم باشا من بيروت سنة 1840م.

 * مؤرّخ