بيروت - لبنان

اخر الأخبار

17 شباط 2020 12:04ص أيام بيروتية (15): وقف قصر بيت الدين لحمايته من المصادرة ثم إبطال الوقف لثبوت الهبة قبل الوقف

حجم الخط
من المعروف انه عندما تتجمع غيوم الثورة تسارع الطبقة الحاكمة الفاسدة والمفسدة (ما أشبه الليلة بالبارحة) الى تهريب أموالها خارج البلد. وكما سبق للأمير فخر الدين المعني الثاني أن أخذ معه أمواله وأودعها في بنك تسكانة، فعندما شعر الأمير بشير الثاني بالأرض تميد تحت قدميه وبدنو أجل حكمه وان السفينة اقتربت من الشاطئ لتحمله الى منفاه في مالطه، لجأ الى حياكة خطّة وضعها أو بالأحرى وضعها له أحد العارفين بالحيل القانونية والفقهية حماية لقصره من المصادرة شارك فيها معه زوجته حُسن جهان وابنته سعدى وسليم زوج هذه الأخيرة والمستشار الفقهي المجهول وإن كان المريب يقول خذوني، وتقضي بهبة القصر الى زوجته سراً ثم وقف القصر لدى القاضي الشرعي علما بان هذه الوسيلة كانت متبعة منذ أيام سلاطين المماليك لحماية أموالهم من المصادرة بوقفها على أولادهم وقفاً ذرياً بعباءة وقف خيري وشاع القول «احتال الآباء في حبس الأموال على أولادهم بالوقف فاحتالت القضاة على أولادهم بالإسراع الى إطلاق الحجر وإيناس الرشد إذا أرادوا الشراء منهم وابطأهم إذا لم يرغبوا بذلك».

والحقيقة الي لا ينكرها إلا معاند ولا يرفضها إلا مشاكس ولا يماري فيه إلا لجوج ان وقف قصر بيت الدين قصد منه حماية القصر من المصادرة وبقيت حقيقة الوقف مختفية حتى هدوء الأحوال الأمنية وثبوت وجود حوادث متقدّمة ومتأخّرة عن تاريخ الوقف أي حوادث ما قبل سنة 1840م وما بعدها.

وقف قصر بيت الدين على زوجة الأمير و 150قرشا للفقراء

 أوعز الأمير بشير إلى وكيله مصطفى آغا ابن عبد الغني فتح الله (نسيب المفتي الشيخ عبد اللطيف فتح الله) بالقيام بما يلزم لوقف قصر بيت الدين. وبالفعل حضر الوكيل المذكور في 23 صفر الخير سنة 1255 هـ/ أيار (مايو) 1839م إلى «مجلس الشرع الشريف الأنور ومحفل الحكم المنيف الأزهر بمدينة بيروت المحروسة لدى متوليه الحاكم الشرعي الحنفي الموقّع اسمه الكريم بخطّه وختمه أعلاه دام فضله وزاد علاه». وكان القاضي في حينه هو الشيخ عبد القادر جمال الصيداوي، ووقف الوكيل بوكالته عن الأمير بشير وحبس وأبّد وخلّد وتصدّق، بما في يد موكله وجار في ملكه وتحت مطلق تصرفه وذلك الموقوف هو «جميع الدار المعروفة بدار الحريم المشتملة على أماكن سفلية وعلوية، من بيوت وغرف وساحات ومرتفقات، الكائنة داخل سراية الموكل ضمن قرية ابتدين شرقي القرية المعروفة بدير القمر من قرايا جبل الشوف، من الباب الكبير المرصّع بالرخام، الذي هو تجاه القبلة إلى ما في داخله، ومدخله يميناً ويسارا. وجميع الدار المعروفة بالوسطى التي فيها بركة الماء الكبيرة الجارية، المشتملة على أواوين وقاعات ودواوين وخانات ومربعات وساحات وعلى دور صغار. وتشمل الدار العلوية المسماة بالديوان خانة، على إيوان وثلاثة مربعات وسبيل ماء جاري، يصعد إليها بسلم حجر. وكذلك جميع الجنينة الملاصقة للحمام والتي بجانب الإصطبل. والدار التحتانية المعروفة بدار الخيل، المشتملة على إيوان وأود وبركتي ماء وقبو معقود ومحوطتين. وجميع الإصطبلات الكائنات أسفل دار الحريم، وجميع الأقبية والحواصل الكائنة أسفل الدار الوسطى..».

وجعلت الوقفية الأماكن المذكورة «وقفاً وحبساً وتأبيداً وتصدّقاً شرعيات صحيحـات، لا يباع شيء من الأماكن الموقوفة ولا تشترى، ولا توهب ولا تملك ولا تستملـك، ولا ترهن ولا تستبدل ولا يناقل بها أو بشيء منها، ولا تنتقل لا هي ولا شيء منها إلى ملك أحد من الناس... وجعل ذلك كله وقفاً شرعياً على الستّ جهان بنت عبد الله جركس (زوجة الأمير الثانية) ما دامت، ودائماً ما عاشت. ثم من بعدها فعلى أولاده ثم أولادهم وأنسالهم، فإذا انقرضوا كان ذلك وقفاً على الأمير عبد الله ابن شقيق الأمير بشير ثم أولاده وأنساله، فإذا انقرضوا يكون ذلك وقفاً شرعياً على الفقراء والمساكين...»

ونصت الوقفية على إخراج مبلغ 150 قرشاً كل سنة (كانت الليرة الذهبية تساوي 100 قرش) من غلّة الوقف، صدقة للفقراء والمساكين. وجعل التولية والنظر على الوقف للست حُسن جهان. 

الإدّعاء بهبة القصر وفتوى إبطال وقفه

بعد أشهر على وقف سراية بيت الدين، انسحب جيش إبراهيم باشا، وصدر الأمر بالقبض على الأمير بشير ونفيه إلى مالطه التي حملته إليها سفينة انكليزية في تشرين الأول (اكتوبر) 1840م. بقي الأمير بشير وعائلته سنة في مالطه، أذن له بعدها بالحضور إلى الأستانة، فمكث فيها مدة ثم أرسل إلى الأناضول وعدة مدن أخرى، الى أن توفي في الأستانة سنة 1850م. وكانت الأحوال قد هدأت، فعادت عائلة الأمير إلى بيت الدين.

وفي 23 من شهر ذي الحجة سنة 1273 هـ/ آب (اغسطس) 1857م تقدّمت الأميرة سعدى ابنة الأمير بشير بشخص وكيلها الخواجة فضل الله العازار من قاضي بيروت الشرعي عبد الحميد أفندي، بدعوى ضد والدتها الست حُسن جهان، مدّعية بأن والدتها خالفت شرط الواقف وأهملت الموقوف وباعت من صهرها الأمير سليم عبد الله الشهابــي - أي زوج سعدى نفسها – جزءاً من الأماكن الموقوفة، فهي بذلك قد صارت غاصبة للوقف ومستحقة العزل. وطلبت إبطال البيع الصادر عن والدتها. تمثل الأمير سليم بالخواجة يوحنا التبشراني، وتمثلت الست حُسن جهان بالخواجة إبراهيم مشاقة، الذي أفاد بأن الأمير بشير حال حياته، وفي زمن سابق لما تدّعيه سعدى من الوقف، قد وهب زوجته الست حُسن الأماكن المدّعى وقفها هبة صحيحة شرعية بالتسلّم والتسليم، تسكنها وتستغلّها طيلة مدة حياتها ثم بعد وفاتها يرجع ذلك ميراثاً لأولاده.

وأبرز وكيل حُسن جهان صكاً بالهبة مذيّلاً بإمضاء وختم الأمير مؤرّخاً في 21 شوال سنة 1252هـ (لاحظ انه التاريخ نفسه الذي جرى فيه تسجيل الوقف). كما أبرز وكيل حُسن جهان فتوى شرعية صادرة عن الشيخ محيي الدين اليافي (ابن الشيخ عمر اليافي وشقيق الشيخ محمد أبو النصر اليافي. وقد ولّي الشيخ محيي الدين إفتاء بيروت مدة قصيرة سنة 1850م) وتنص الفتوى سؤالاً وجواباً:

«ما قولكم دام فضلكم، فيما إذا وهب زيد داره لزوجته وسلّمها لها تسكنها مدة عمرها وحياتها لا ينازعها منازع ولا يعارضها معارض، ثم بعد وفاتها ترجع ميراثاً لأولاده على الفريضة الشرعية، فهل تكون هذه الهبة صحيحة لازمة ويبطل الشرط وتملك الزوجة الدار الموهوبة بهذه الهبة، وتورث لها وليس له رجوعاً عليها حال حياتها ولا على ورثتها بعد مماتها أم كيف الحال؟

وفي هذه الصورة لو بعد أن وهب وسلّم، قد وقف وحبس وأبّد هذه الدار الموهوبة على جماعة معلومين وآخره لجهة برّ لا تنقطع ومات الواهب المذكور ثم باعت الزوجة المحررة بعضاً شائعاً في الدار الموهوبة لعمرو، فبرز حينئذ بعض المستحقين بإذن الحاكم الشرعي يخاصم المشتري المحرر والزوجة بالدار المحررة بدعواه أنها وقف عليه وعلى جماعة سواه، فهل لو قامت الزوجة المذكورة أو المشتري فيها بيّنة عادلة على سبق الهبة على الزمان الذي يدّعي فيه صدور الوقف من زيد المزبور، يحكم لها بالملك ويبطل الوقف المذكور ويكون الحكم بالملك المؤرّخ حكم على زيد وعلى من يدّعي تلقّي الملك أو الوقف منه من وقت التاريخ أو كيف الحال أفيدوا...»

الجواب:

«الحمد للّه تعالى، نعم حيث وهب زيد لزوجته الدار المرقومة وسلّمها لها وقال تسكنها مدة عمرها ثم بعد موتها تكون لأولاده، فالهبة جائزة صحيحة وتكون لها ولورثتها من بعدها. ففي فتاوى شيخ الإسلام علي أفندي مفتي الممالك العثمانية نقلاً عن الهداية والعمرى جائزة للمعمر حال حياته ولورثته من بعده. ومعناه أن يجعل داره له عمرى وإذا مات ترد إليه فيصح التمليك ويبطل الشرط. وفي رد المحتار عن كافي الحاكم الشهيد: إذا قال داري هذه لك عمرى تسكنها وسلّمها إليه فهي هبة. وكذا لو قال: اعمرتك داري هذه حياتك. أو قال اعطيتكها حياتك فإذا مت فهي لي لوارثي، فهي هبة صحيحة والشرط باطل فمن باب أولى اذا صرح في لفظ الهبة...

ويتابع المفتي بأنه «إذا أثبتت الزوجة الهبة يكون بيعها من عمرو صحيح نافذ لأنها باعت ما هو ملكها. وإذا ادّعى بعض المستحقين أن الدار وقفها زيد وأقامت هي البيّنة على الهبة والتسليم بتاريخ سابق على الزمان الذي يدعى فيه صدور الوقف، يحكم لها بالملك ويبطل الوقف، لأنه وقف ما لا يملك لخروجه عن ملكه بالهبة...».

وهنا أحضر الخواجة إبراهيم مشاقة الأغوين الزنجيين عبد الفتاح وفرج ولدي عبد الله معتوقي الأمير بشير، وشهد كل منهما بأن الأمير بشير قاسم عمر الشهابي حال حياته اعترف وأقرّ بحضرتهما في 21 شوال 1255هـ بأنه قد وهب وسلّم زوجته الست حُسن جهان الأماكن موضوع النزاع... وجاءت شهادتهما «صحيحة شرعية، متفقة الألفاظ والمعاني، ومنسقة المقاطع والمباني، عن علم جامع ويقين لامع...» فقبلت شهادتهما وحكم القاضي الشرعي بصحة الهبة وجريان الموهوب بملك الست حُسن جهان وبعدم صحة الوقف حكماً شرعياً صدر في 23 ذي الحجــة 1273 هـ/ آب 1857م.

وهكذا أبطل الوقف المسجل والمثبت بحكم من القاضي الشرعي والذي يحمل تاريخاً صحيحاً، وصادر في منازعة قضائية، أبطل بسند بإمضاء وختم الأمير مؤرّخ – بتاريخ غير ثابت – هو تاريخ الوقف نفسه ومدعم بشهادة عبدين زنجيين محررين من عبيد الأمير بشير بعد أن قدّما شهادة متفقة الألفاظ والمعاني منسقة المقاطع والمباني، عن علم جامع ويقين لامع.. كذا... وكل ذلك بناء على دعوى مقدمة من ابنة الأمير بشير بوجه والدتها التي باعت جزءاً من القصر لصهرها الأمير سليم زوج المدعية سعدى؟!! وسندا الى فتوى غير مقبولة برأينا لأنها ساوت بين صك عادي بهبة لم تسلم للموهوب لها رجع عنها الواهب ووقفها بحكم شرعي مثبت ومعلن ومسجل.



* مؤرّخ