بيروت - لبنان

اخر الأخبار

29 شباط 2020 12:04ص أيام بيروتية (17): مجلس مؤقّت في بيروت لتحقيق دعاوى الأموال المنهوبة في جبل لبنان

مجلس تحقيق وأول سجل مجلس تحقيق وأول سجل
حجم الخط
أنهى تحالف الدول المتحابة إخراج جيش محمد علي باشا من بلاد الشام، فبعدما طمع محمد علي بالحلول محل السلطان رضي من الغنيمة بالإياب ضامناً حكم مصر له ولذريته. وانتهى حكم الأمير بشير الشهابي الثاني منفياً الى مالطة فالاستانة بعد أن ضمن قصر بيت الدين له ولذريته. وهو الذي كان الحاكم المطلق في الجبل متمتعاً بالنفود والمال. فعلى سبيل المثال أرسل نابوليون بونابرت سنة 1805م هدية الى أحمد باشا الجزار تقديراً لما أبداه هذا الأخير من بسالة في الدفاع عن عكا، وكانت الهدية بارودة مفتخرة طاقمها من الذهب طول حديدها ذراعين ونصف وقماش الحديد من الحرير والمخمل مرسوم جميعه بالذهب. وقد وصلت الهدية الى قنصل فرنسا في الاسكندرية الذي كان مأموراً بإرسالها الى الجزار إلا انه بعد وفاة هذا الأخير أبقى البارودة عنده وأعلم بونابرت طالباً أمره بشأنها فأجيب بأن يرسلها لمن يجلس مكان الجزار فأرسلت الى سليمان باشا وبعد وفاة هذا الأخير أنعم بها خلفه على الأمير بشير.

إلا ان الأمير بشير مع سطوته لم يتجاوز وظيفته كمقاطعجي (حلّت محلها كلمة إقطاعي) لدى الدولة العليّة وخضع في علاقاته معها للمراسم التي كانت متّبعة. ويروي إبراهيم العورة كاتب سليمان باشا ان الأمير بشير توجّه الى عكا لتعزيته وولده عبد الله ولدى وصوله قرب عكا كُلّف عبد الله باشا باستقباله، فخرج بموكب من العساكر والاغوات والموسيقى ولما قربوا منه «نزل الأمير عن مركوبه وسعى جرياً كأنه يريد تقبيل ركاب عبد الله باشا وهذا إذ نظره نزل عن المركوب عن بُعد وصار يمنعه ويحلف عليه وعندما قاربوا بعضهم سجد الأمير حالا على أذيال عبد الله باشا ليقبّلها...» ويضيف الكاتب «عندما وصل الأمير الى ديوان سليمان باشا سجد على أقدام الوزير ليقبّلها فالوزير منعه فقبّل الأمير أذياله وأنهضه».

وعاد الحكم العثماني المباشر الى بلاد الشام وعاد المشايخ الاقطاعيون الذين لجأوا الى الاستانة والذين نفاهم الأمير الى السودان وطالبوا الأمير بشير الثالث الملقب بأبي طحين (لمعاطاته التجارة في هذا الصنف، سنة غلاء وقحط عقب ولايته) بإستعادة أموالهم وحصل النزاع بينه وبينهم وبين بعضهم البعض ما أدّى الى فتنة فقاموا بتحريض رجالهم، فحصلت فتنة بين الدروز والمسيحيين. وقد أدركت السلطة العثمانية بعد عودتها الى حكم بلاد الشام أهمية سورية للدولة ولدور بيروت بالذات، فعملت على تفعيل سلطتها المباشرة عسكرياً وإدارياً وعمرانياً وبدأت بإنشاء مجلس تحقيق بحوادث الجبل وبتنظيم القضاء.

مجلس تحقيق دعاوى الأموال المنهوبة يضمُّ المفتي والخوري والقاضي

وكان السلطان قد أرسل سنة 1257هـ مصطفى باشا سر عساكر الدولة العثمانية وفوّضه النظر بأمر الفتنة التي نشأت في الجبل بجوار بيروت وترتيب ما يقتضي لذلك وتنظيمه، فمدحه المفتي الأغر بقصيدة مطلعها:

شرّفتم بقدومكم بيروتنا

فَغَدَتْ لخيرات البسيطة مخزنا

فرحت بذياك القدوم فألبست

ثوب السرور فبعده لن تحز

سماك من سمّاك باسم

المصطفى نور الهدى لا زلت نورا بينا

لا غيب فيكم غير غيرتكم على

دين النبي محمد باهي السّنا

وعلى أثر هذه الفتنة وما يليها أمر السلطان والي صيدا بيروت وطرابلس محمد أسعد مخلص، بنصب المجلس المؤقت في بيروت، لأجل تحقيق دعاوى المسلوب والمنهوب من نصارى ودروز، التي سلبت في دير القمر وفي غيرها من قرى جبل لبنان ومجاوريه من الجبال. وكان المجلس برئاسة الوالي المذكور، وكان من أعضائه مفتي بيروت الشيخ أحمد الأغر فقال في وصف المجلس:

مجلسنا على الكراسي بَدتْ 

أقماره من شمسه تختفي

أخصامه فيه جرى بينهم

حسابهم فكان كالموقف

وكان من جملة أعضاء المجلس الخوري أرسانيوس الفاخوري الحاكم الشرعي على المسيحيين في الجبل فذيّلهما بقوله:

لكنـــــه ذو عزّة شامل إظهار حق عن سواه خفي

منزّه عن زلّــــــة كيف لا ورأسه صاحب عدل وفي

من شمس عدله يزاح الذمى عن أرضنا يا له من منصف

فتختفي الأقمار من نوره لكنه لفرض حق تفي

كل له تأثير فعل يرى لدى المرء لعدلـــــه يقتفي

وخامسهما محمد المفتي الطرابلسي الحاكم الشرعي في بيروت في حينه بقوله:

السيد الشهم المثير اقتدت

اسود غابات به قد سمت

فقلت مذ أنوارهم قد زهت

مجلسنا على الكراسي بدت

أقماره من شمسه تختفي

فالعدل والإنصاف قد صانهم

عن كل ما يردي وانّي لهم

من أجل ذاك الخير قد نالهم

أخصامه فيه جرى بينهم

حسابهم فكان كالموقف

تنظيم القضاء الشرعي

ذكر الدكتور أسد رستم انه عندما باشر بجمع الأصول العربية لتاريخ سورية، سأل قاضي القضاة في بيروت الشيخ محمد الكستي عن سجلات محكمة بيروت الشرعية فأفاده بضياع سجلات بيروت قبل سنة 1270 هـ. ولعل القاضي الكستي أخطأ بهذا التاريخ فذكره بدل سنة 1259 هـ/1843م. يذكر أن أرباب السلطة في القضاء في المحاكم المحلية الصغيرة لم يجعلوا التسجيل إجبارياً وان قضاة هذه المحاكم كانوا مخيّرين بين أن يسجلوا أم لا، ولهم الحرية عند إنتهاء مدة قضائهم أن يحملوا سجلاتهم معهم حيث شاؤوا. ونعتقد ان بعض القضاة الذين تعاقبوا على بيروت قبل سنة 1259هـ/1843م كـ: عبد الهادي قرنفل وأحمد البربير وأحمد الأغر جلسوا في بيوتهم واتخذ كل منهم سجلاً لنفسه سجل فيه أحكامه وبقي بحوزته عند إنتهاء مدة قضائه وان الذي دفع القاضي الى اتخاذ سجلات تبقى في مركز المحكمة منذ سنة 1259 هـ ان السلطة العثمانية أخذت بعد إخراج إبراهيم باشا من بلاد الشام تولّي بيروت اهتماماً خاصاً تجلّى في عدة مظاهر منها تنظيم القضاء.

أما عن المجلس الشرعي القديم في بيروت فيمكن القول انه كان يعقد في أحد الأبنية الموقوفة الكائنة الى شرقي جامع الأمير منذر في المحلة التي عرفت بسوق العقادين (البازركان فيما بعد) التي ضمّت عقارات وقفية منها عقار تولّت عليه جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية في بيروت وكانت اجتماعات مجلس أمنائها الأول عند تأسيسها تعقد فيه. ويستدلّ على ذلك من إعلان نشره سنة 1875م الشيخ عمر البربير مؤسس المدرسة القادرية وفيه «انه بناء على إقدام الطالبين لتعلّم اللغة التركية وان دقائق هذه اللغة تستلزم معرفة اللغة الفارسية فقد أحضر معلماً فارسياً مستعد لتعليم هذه اللغة وكتابتها في محل المحكمة القديمة تجاه جامع النوفرة» (أي جامع الأمير منذر أو الجامع المعلق أو جامع القهوة).

وكان أول قاضٍ افتتح سنة 1259هـ/1843م سجلات لا تزال باقية هو الشيخ محمد المفتي ابن حسن الاشرفي الطرابلسي مدحه الشيخ ناصيف اليازجي عند حضوره قاضيا بقصيدة قال فيها: 

كل فن له رجال وفي كل

رجال من يستحق الإمامـــه

كإمام القضاة مولى الموالي

كعبة الفضـــــل العالم العلّامه

الذي قام في طرابلس الشا

م فكانت في وجنة الشــام شامه

علمُ دلّت البنــــان عليــــه

عند إقبالـــه فتلك العلامــــــه

يسبق الفعل منه قولي فما أد

رِكه لو ركبت متن النعامه

حسبك الله يا محمــــد قد أو

عيتَ ما ضاق عنه غور تهامه

ليت معطيك ذلك الفضل أعطا

نا له ألسنــــاً بـــــه قوّامــــه

وكان الشيح محمد المفتي شاعراً وفقيهاً وله فتاوى عديدة جمعنا بعضها من سجلات محكمة بيروت الشرعية. وقد أوضحنا في كتابنا «تاريخ القضاء الشرعي في بيروت» تفاصيل محتويات السجلات والموضوعات التي تناولتها وترجمة للقضاة وتواقيعهم وأختامهم وتقاليدهم في افتتاح السجلات واختتامها وبيّنا أهمية السجلات في معرفة العائلات ونوعية المنازعات التي كات تعرض على المحاكم ونبذة عن المحامين والمهندسين وأصحاب الخبرة الذين كانت المحكمة تستعين بهم.

 * مؤرّخ

أخبار ذات صلة