بعد إنسحاب جيش محمد علي من بلاد الشام مكتفياً بالحكم له ولذريته على مصر، أدركت السلطة العثمانية أهمية ولاية سورية وثغرها بيروت لا سيما بعد ما شاهدته من اهتمام الدول الأوروبية بها وما قام قناصلها من تدخّل في السياسة الداخلية تحت ستار عناوين مختلفة من حقوق الإنسان الى حرية الجماعات وصولا الى تثبيت الامتيازات وفرض حماية الأفراد من جنسية تلك الدول وممن يتبعها، ما أطلق عليها لفظ «حماية» من الوطنيين بحيث امتنع على السلطة القضائية المحلية ملاحقة من تمتع بالحماية وحصرها بالقناصل وغالبا ما كان الملاحق يلجأ الى دار قنصليته ثم يتحيّن الفرصة للخروج من سلطة القضاء المحلي الى خارج النطاق القضائي للمدينة.
وكما عمدت السلطة العثمانية بعد أن أصدر السلطان عبد المجيد في الثالث من شهر تشرين الثاني 1839 الخط الشريف المعروف بالتنظيمات الى تثبيت صلاحيتها بإنشاء مجلس التحقيق وتنظيم القضاء وفقا لما بيّناه في الفقرة السابقة، باشرت بتنظيم عمل الإدارة بدءا بترميم السراي والزوايا وتحويل زاوية الشويخ القادرية الى جامع المجيدية وصولا الى إنشاء الثكنة العسكرية والمستشفى العسكري.
المباشرة بترميم السراي
إثر انسحاب إبراهيم باشا عيّنت الدولة العثمانية المشير الجامع بين فضيلتي السيف والقلم محمد أسعد مخلص باشا والياً على صيدا وبيروت وطرابلس، فوصل إلى بيروت نهار الجمعة في السابع عشر من شهر رمضان المبارك سنة 1258هـ/ تشرين الأول 1842م، فرحّب به مفتي بيروت وقاضيها الشيخ أحمد الأغر قائلاً:
بيروتُنا الفيحاءُ دامت تَسعدُ
بين البلاد وعزّها يتأيّدُ
قدم الصفا فيها وخفّ هواؤها
كالماء حيث هناؤها يتجدّدُ
عقمت بها أتراحها ومن السرو
رغدت بها أفراحها تتولّدُ
هي جنّة لكنما ولد أنسها
مع حورها في جنّة تتخلد
لا بدع إن صارت سماء أرضها
مذ حلها بدر لكمال الاسعد
مذ حلها أضحت عناقد خيرها
تزهو وتحلو بالنمو وتعقد
عنيه والي ساحل الشام الذي
شامت مكارمه الكرام فقلدوا
أعنيه من ولّاه سلطان الدنا
ومليكها عبد المجيد الأمجد
وصدر الأمر في تلك السنة (1843م) للوالي المذكور بتعمير سراي بيروت بعد الخراب الذي لحق بها من قصف مدافع أساطيل الدول المتحابة، فعمّرها وأرّخ الشيخ أحمد الأغر ذلك بقوله:
أنظر الى دار الإمارة أحمد
كيف إغتدت بعد الدثور تجدّدُ
لترى بأن الدار مثل بقاعها
تشقى كما تشقى الرجال وتسعدُ
فالله أسعدها وزال شقاؤها
مذ حلها سعد السعود الأسعد
والي البلاد على العباد له السداد
وكم أجاد بما أفاد السيّدُ
أعني الوزير أي المشير أي الأمير
أي الكبير هو الخطير محمّدُ
فالسرُ في السكان لا الدكان قد
قالوا قديماً ليس فيه تردُدُ
أضحت به معمورةً وأمينةً
من بعد أن كانت خرابا ترعدُ
طير الهنا وهلاله فيها اغتدى
طول المدى أرّخ يهل ويغرّد
وكان الأمير منصور عساف التركماني قد اتخذ سنة 1572م بيروت مقراً له وبنى السراي أو دار الولاية بجانب الجامع الذي شيّده وعرف بجامع السراي أو جامع الأمير عساف أو جامع دار الولاية (يذكر انه اصطلح على تسمية الدار التي يقيم فيها الوالي بدار الولاية ومن هنا المحلة التي عرفت في بيروت بحوض الولاية) وقد شهدت هذه السراي منذ سنة 1860م بعض إجتماعات فؤاد باشا مع ممثلي الدول والتي إنتهت بإقرار نظام متصرفية جبل لبنان. كما حلّ فيها الوالي الشهير مدحت باشا واتخذ مها مقراً لإدارة الأمور وتسيير الأعمال.
يذكر ان الرحالة عبد الغني النابلسي زار بيروت مرتين، كانت الثانية في السادس من شهر ربيع الثاني سنة 1112هـ/ 20 أيلول 1700م ونزل في سراية البلدة فوصفها بقوله «وصلنا بيروت ونزلنا في سراية حاكم البلدة وأميرها وحافظ ثغرها. ولله من سراية رفيعة البنيان مشيدة الأركان. بها أماكن كثيرة ومياه غزيرة. وبها بركة ماء طولها 30 ذراعاً وعرضها 10 أذرع. وخارج السراية أماكن متعددة مبنية كلها بالأحجار، وكل مكان منها مقدار هذه السراية، وهي الآن كلها مهجورة».
وبعد أكثر من مائة سنة على زيارة النابلسي، مرّ ببيروت الأديب الفرنسي جيرار دو نيرفال وأصدر سنة 1844م كتابه «رحلة إلى الشرق» قال فيه عن بيروت «دخلت المدينة، وعند رجوعي بالظهيرة، مررت بسراي الحكومة عند البوابة الشمالية، فرأيت الناس كلهم نيام، فالجمّال وجمله، والحمار وحماره، والحمّال وحمله، كلهم ممدّدون على الأرض في القيلولة وقد اخبرنا مفتي بيروت الشيخ أحمد الأغر، حتى صاحب الدكان تراه نائماً في دكانه». ووصف السراي بقوله «وأما سراي الحكومة فقد جعلت واجهاتها أكشاكا من زجاج كأبنية الآستانة، وأرض السراي وغرفها كلها مرصوفة بالرخام المرمري، وأركانها الشمالية ملاصقة لبوابة المدينة، وهناك نبع ماء تظلله شجرة جميز كبيرة».
لوحة ديوان الوالي في السراي
ومما عرفناه من محتويات ديوان الوالي في السراي ما أخبرنا به المفتي الشيخ أحمد الأغر قال «كنت يوماً متشرّفاً في مجلس حضرة أفندينا أسعد باشا فرأيت قطعة مكتوبة بخط سعادته بالفارسية معلّقة في حائط ديوانه الشريف فقال ان مضمون ذلك المحفة مقدمة الراحة فانظر احتراق لسان موسى عليه السلام كيف كان مقدمة لراحته وهي كلمته. وكان المكتوب في القطعة سطرين فظننتهما بيتين. فسألني سعادته هل أحد نظم هذا المعنى بالعربية فأجبته بأني لم أطلع على ذلك فنظمت هذا المعنى بهذين البيتين وهما قولي:
اصبر فكل محنة لراحة المؤمن ذي الصبري المقدمه
فالنار لما احرقت لسان موسى فوق طور العز ربي أكرمه
وقدّمتهما الى سعادته فقال ان النظم الفارسي لهذا المعنى بيت واحد فنظمته في بيت واحد وهو قولي:
تأتي الرغائب من وجوه مصائب
موسى الكليم غدا بحرق لسانه
ترميم الزوايا وتحويل زاوية الشويخ الى جامع المجيدية
أصيبت زاوية الشويخ القادرية التي انشأها الوالي قبلان باشا المطرجي سنة 1111هـ/ 1699م بقنبلة ألحقت بها بعض الضرر ما اثار اهتمام السلطان عبد المجيد فأمر بترميمها وتحويلها الى جامع فبنيت المئذنة وأضيفت صالة شرقية للزاوية فعرفت من يومها بجامع المجيدية. وأخطأ من وصف الزاوية بانها كانت قلعة فقد بيّنا في مواضع سابقة ان الزاوية بنيت بملاصقة سور بيروت الغربي وانها كانت مرتفعة عن سطح البحر بمعدل ثمانية أمتار وان مياه البحر كانت تصل إليها وهو ما دعا عبد الغني النابلسي ان يقول «كأنها قبة في رأس جبل حصينة منيعة وهي مطلّة على البحر جديدة البنيان عظيمة الأركان».
يذكر أن كل الذين كتبوا عن جامع المجيدية نقل بعضهم ما قاله الآخر دون تحقيق يركن إليه أو ثبت يعتمد عليه كقولهم بأن الجامع كان قلعة بحرية أو جزءاً من قلعة أو أنه استخدم كمخازن للتجار ثم دفعت الحمية بعض أبناء المدينة أيام السلطان عبد المجيد فجمعوا المال وعمّروا القسم الغربي – كذا – منه وأن القلعة أصبحت جامع المجيدية.
وهذه الأقوال ليست دقيقة ولا كافية ولا يوجد ما يؤيّدها. أما الحقيقة التي أثبتناها فهي أن جامع المجيدية كان في الأصل زاوية إبن الشويخ شيخ الطريقة القادرية في أيامه ويعود نسبه الى الشيخ عبد القادر الجيلاني (أو الكيلاني) وهذه الزاوية مع قبة زاوية ابن عراق هما ما تبقّى من زوايا بيروت القديمة.
ترميم زاوية الخلع
كما أصيبت زاوية الخلع التي انشأها الشيخ محمد الفاخوري في سوق البياطرة بقصف الدول المتحابة، فجرى ترميمها بمساعدة من السلطان عبد المجيد «وقيّد في دفتر الزاوية عما ورد من طرف الخزينة العامرة من ديوان نظارة الأوقاف وإنعام من مولانا السلطان نصره العزيز الرحمن».
* مؤرّخ