تعدّدت حملات أسطول جنوى على الثغور العربية وكان لبيروت الحصة الكبيرة منها. أخبرنا صالح بن يحيى ان تعميرة جنوية جاءت الى بيروت في جمادى الثانية سنة 784هـ/1382م ووصلت أصداؤها الى بيدمر نائب الشام فارسل العساكر الشامية إلا ان التعميرة تراجعت عن بيروت وتوجهت الى قبرص فتراجع العسكر الشامي الى دمشق.
وغابت التعميرة الجنوية عدّة أيام ثم عادت الى بيروت وسلّطت رماتها المدافع على البرج الصغير البعلبكي (سمي البعلبكي لان فرقة من العسكر كانت تاتي من بعلبك شهريا كي تحل محل فرقة منسحبة, وقد شاعت عبارة بيروتية لا تزال تقال وهي: شدّوا مداسانكم يا بعلبكية) وعلى المسلمين الذين تنحّوا واستتروا بالجدران وتقدّمت السفن الى البر ما بين البرج الصغير والخرائب القديمة التي كانت في موضع البرج الكبير قبل أن يبنى هذا الأخير (ويقصد بالبرج الكبير برج السلطان برقوق وكان موضعه شمالي السراي الصغير وهو الذي أعطى اسمه للساحة القديمة المعروفة بساحة البرج) ونصبوا السقالات من السفن الى البر ونزل منهم شرذمة كبيرة على رأسهم قائد بيده سنجق وصعدوا الى جانب الخرائب لنصب السنجق إشارة على تملّكهم البلد وشرعوا بالنزول من السفن فرقة بعد فرقة فهجم عليهم المسلمون بقيادة الأمير سيف الدين يحيى (والد صالح) فتغلبوا عليهم ورموا السنجق. فلما رأى الفرنج وقوع السنجق ضعفت عزيمتهم فتبعهم ذوو النخوة (القبضايات) من أهل البلد فانهزموا وازدحموا على السقايل هاربين فانقلب بعضها وغرق منهم جماعة وقتل البعض الآخر.
ويضيف صالح بن يحيى ان البيارتة بأن نفرا من المسلمين استشهد وجرح آخرون، وانه كانوا قد أشعلوا النار ليلة وصول الفرنج وذلك بالتدريج الى دمشق (كانت النار تصل الى دمشق في ليلة فقد كانت تشعل من ظاهر بيروت الى نار في رأس بيروت العتيقة أي دير القلعة في بيت مري ومنه الى بوارج – بوارش قديما - فإلى جبل يبوس فجبل الصالحية فقلعة دمشق) فحضر نائب الشام مع عساكره ولكن بعد فوات الأوان ولم يلحقوا القتال ولم يروا غير السفن في البحر راجعة الى بلادها.
شمس الدين القونوي
وذكر البعض ان شمس الدين محمد بن يوسف بن إلياس القونوي شمس الدين الخطاب كان من جملة من استشهد في هذه الواقعة وهو مدفون في الجهة الشرقية من الجامع المعروف بإسمه وسط بيروت. وانه كان مكتوبا فوق الضريح:
لشمس الدين مولانا محمد كرامات له بالفضل تشهد
أمير مات في الدنيا شهيدا وفي هذا الضريح لقد توسد
ومن المتناقل في بيروت إطلاق صفة الشهيد على شمس الدين المذكور ففي سنة 1813 عندما حلّ الشيخ عبد الرحمن الزبري ضيفا على مفتي بيروت الشيخ عبد اللطيف فتح الله مدحه هذا الأخير بقصيدة جاء فيها:
كذا شمس الدين أعني شهيدها بزاوية تعزى إليه وتنسب
وفي رواية مقبولة ذكرها القس حنانيا المنير في كتابه «الدر المرصوف في تاريخ الشوف» خلاصتها ان ابن ملك الفرنج حضر الى بيروت بجماعة من أصحابه فاحتسب المسلمون تدخّل قومه شيئا فشيئا فيتملّكون البلد وكان فيهم شيخ أعمى يقال له الشيخ شمس الدين فحضر ومعه جماعة من المسلمين حتى دنا منه فسأله صدقة وبينما اشتغل عنه باخراج ما يعطيه هجم عليه وأخذ بعنقه فوثبت عليه أصحابه واعترضهم المسلمون فلم يصلوا إليه حتى مات. ونعي الى الملك الذي جهّز عمارة بحرية عظيمة فدخل بيروت وقتل خلقا كثيرا من أهلها. يذكر ان الساحة التي كانت موجودة بين تقاطع شارعي ويغان والمعرض (اللنبي) كانت تعرف بساحة الشهداء وهم الذين استشهدوا أثناء الحروب الصليبية.
يذكر انه صار عرض توجيه التدريس العام في جامع شمس الدين سنة 1874 على الشيخ محمد سعيد الجندي من علماء بيروت حيث وجد بعد الامتحان مستحقا وأهلا لذلك وكانت وظيفة التدريس معطلة نحو عشر سنوات ونظم إعلام بذلك من محكمة بيروت الشرعية أرسل الى نظارة الأوقاف في الاستانة فورد الاستعلام عن الجامع وكيفية أوقافه فاجاب محمد عطا «محاسبةجي» أوقاف بيروت ان الجامع هو الجامع الجديد وإنما أضيف الى شمس الدين لوجود تربته فيه وهو من الغزاة المجاهدين.
حملة سنة 1403 ومسطبة من قتلى الفرنج على باب بيروت
تكررت محاولات رجال الجنوية لغزو بيروت ففي شهر محرم سنة 806هـ/1403م حضرت مراكب الجنويين الى بيروت فاشتغل أهلها بترحيل حريمهم وأولادهم وأمتعتهم فخلت بيروت من أهلها ولم يكن فيها متولي ولا عسكر ولم يبق فيها سوى أمراء ومعهم بعض رجال من أهل البلد.
وأخبرنا صالح بين يحيى بنزول الفرنج الى البر غربي البلدة في مكان يسمّى الصنبطية ويضيف بان الفرنج تملكوا البلد ونهبوها واحرقوا دار الأمراء والسوق القريبة من الميناء وان المسلمين صاروا يتكاثرون أولا بأول وان اصحاب النخوات (القبضايات) لاحقوا وتتبعوا المنفردين من الفرنج في الأزقة وقتلوا ومنهم جماعة واستشهد ثلاثة أنفار من المسلمين وأقام الفرنج في بيروت الى قريب العصر ثم رجعوا الى مراكبهم ومن جملة ما نهبه الجنوية من بيروت حواصل بهارات للفرنج البنادقة بقيمة عشرة آلاف دينار.
يذكر ان ملك الأمراء الملك المؤيد كان قد حضر الى بيروت بعد إنتهاء المعركة ورسم لمتولي بيروت بقطع رؤوس القتلى الفرنج وأن يعمر على أبدانهم مسطبة على باب بيروت ويكتب عليها اسم الملك المذكور وجهّز الرؤوس الى دمشق ثم الى مصر. فحصل من البيارتة وهم الذين قتلوا الفرنج غيرة لان المسطبة نسبت الى غيرهم فقاموا ليلا بهدمها وإحراق ما كان عليها من جثث.
وثمّة ملاحظة أولى وهي ان الباء في الصنبطية زائدة وناتجة عن قدم المخطوط الأصلي الذي كتبه صالح بن يحيى وان الصاد هي أصلا سين وفق لهجة أهل بيروت الذين كانوا الى زمن متأخّر يلفظون السين صادا فقالوا عن ساحة السور عصور.
والملاحظة الثانية ان الكثافة السكانية في محلة غرب بيروت ضمن السور وخارجه غلبت عليها زراعة أشجار التوت وبناء بيوت بسيطة وهو ما شجّع المعتدين على إنزال الجنود في المحلة المذكورة.
* مؤرّخ