بيروت - لبنان

اخر الأخبار

21 آذار 2020 12:05ص أيام بيروتية (20) البيارتة بين الأراجيف والطواعين

حجم الخط
كان من قدر البيارتة اضطرارهم لحمل أولادهم وأغراضهم و«كلاكيشهم» والخروج من بيروت سواء بسبب غزوات الفرنج أم بما يحلّ في بلدتهم من أوبئة وطواعين. وكان الناس في الأجيال الماضية يسمّون كل وباء طاعوناً، كما كانوا يسمّونه أيضاً الفناء لأنه كان يفني أعداداً كبيرة من الناس. ودرجت العادة على تسمية كل طاعون بلقب يتفق مع الظروف. قال شمس الدين الذهبي في تاريخه: إن الطواعين المشهورة في صدر الإسلام خمسة وهي «طاعون شيرويه في بلاد فارس في حياة الرسول. وطاعون عمواس في زمن عمر بن الخطاب وهو نسبة إلى قرية عمواس بين الرملة والقدس ظهر سنة 49 للهجرة ومات فيه الكثير من أشراف الناس فسمّي «طاعون الأشراف». وطاعون البصرة سنة 67 للهجرة سمّي «بالجاروف» لأنه صار يجرف الناس كما يجرف السيل في الأرض. وطاعون البصرة سنة 87 للهجرة سمّي «طاعون الفتيات» لكثرة من مات فيه من البنات العذارى الفتيات. أما طاعون سنة 1734م فسمّي «العايق يأخذ على الرايق» وسمّي طاعون سنة 1757م «قارب شيحة الذي أخذ المليح والمليحة».

وقيل أن بعض الأعاجم ذكروا للسلطان أن في بلادهم لمّا يقع الطاعون، يجمعوا من السادات الأشراف ممن اسمه محمد أربعين شريفاً وأن يكونوا شرفاء من الأب والأم، فيدعون إلى الله يوم الجمعة بعد العصر على سطح الجامع. فأمر السلطان أن يفعل مثل ذلك، فجمعوا من الأشراف أربعين شريفاً ممن اسمه محمد، وتوجهوا الى الجامع الأزهر، وطلعوا إلى سطح الجامع بعد صلاة العصر يوم الجمعة ودعوا الى الله تعالى برفع الطاعون. فلما فعلوا تزايد أمر الطاعون جداً وكثر الموت...

ويقال إن الطاعون هو سهام الجنّ، فإذا كثر الزنا وشرب الخمر وأكل الربا واللواط والجور حل الطاعون. ورووا أن ما من قوم يظهر فيهم الزنا إلا أخذوا بالفناء. قال إبن حجر والحكمة في ذلك أن الزنا حدّه إزهاق الروح في المحصن، فإذا لم يقم فيه الحدّ سلّط الله عليهم الجن يقتلونهم. ولما كان الزنا يقع من بني آدم سرّاً، فسلّط عليهم الجن يقتلونهم سرّا من حيث لا يرونهم، وقاعدة العذاب أنه إذا نزل يعمّ المستحق له وغيره والرحمة لا تكون إلا مخصوصة. 

عرفت بيروت سنة 1812م وما يليها عدة طواعين مات بها كثيرون جاء ذكر بعضهم في ديوان المفتي الشيخ عبد اللطيف فتح الله قال في تأريخ وفاة عبد الرحمن القصار الدمشقي:

حلّ من وخز الجن فيه شهيداًإذ دعاه المولى لدار النعيم


وفي 5 ربيع الأول 1282هـ/ 1865م توفي بالهواء الأصفر الشاعر الشاب محمد مصباح محمد البربير فقد انتشر الوباء تلك السنة في بيروت وخلت من ثلثي أهاليها الذين توجهوا الى قرى لبنان واعتبر الوباء أشدّ مما حدث سنتي 1845 و1855 إذ بلغت الوفيات 156 في شهر تموز و395 في شهر آب ورافق الوباء نوعان من الحمى الأول الحصبة والثاني تسميه العامة أبو الركب الذي لم يترك سنة 1861 بيتا إلا وزاره. وعزي الأمر الى النفايات المتراكمة في الأسواق والأزقة. وعند شيوع المرض وخروج البيارتة للجبل اتخذت السلطة احتياطات أمنية ليلاً نهاراً وفرض أن لا ينام أحد ليلا على السطوح بغير غطاء. وصدرت التعليمات بمنع أكل الثمار البائتة ولا سيما حلوى التمرية التي يطوف الباعة بصدورها. وكان الهواء الأصفر شديدا على البيارتة سنة 1875 فقد نزح كثير منهم ونبّهت البلدية على من يريد العودة بوجوب طرش أماكنهم بالكلس.

ومن الطريف ان السفهاء جعلوا سنة 1875 من المرض سمراً بينهم ينشرون الأراجيف التي تشوّش الأفكار وتسلب الراحة وتوقع الرعب وتورث الهم والكرب. وقد روي ان شابين كانا يصعدان الى السطح مساء ويخاطب أحدهما الآخر بقوله يا فلان وقع في هذا النهار نحو ستين مات منهم أربعين فيقول الآخر: نعم بلغني ذلك وقد أصيب فلان ومات فلان الخ وذكر في حينه «ان المرض سلّط أهل القرى على التحكم بالواردين إليها بدون مراجعة وان بعض أهالي البرج حرّروا خطابا لعموم الموجودين بها من أهل بيروت بانهم لا يقبلونهم عندهم».

أما صبيحة الجمعة 10 آب 1883 فقد هبّ أهل البلد من مراقدهم ليجدوا ان الجنود أحاطوا بالمدينة وأقاموا الحواجز الصحية وتبيّن ان بعض وريقات علقت في سوق أبي النصر وخان انطون بك وغيرها وفيها إعلام من رئاسة الضابطة للأهالي انه جرى تشكيل كوردون لأجل منع خروج الأهالي واختلاطهم مع أحد. وأدّى الكوردون الى توقف الأعمال وقطع طريق الشام ولبنان فانقطع ورود الطحين والخضار وارتفعت الأسعار. وشكا بعض أصحاب المخازن ان عامل البلدية المكلف برش الماء كان يميل بقربته نحو مخزن من يدفع البخشيش ولسان حاله يقول «وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان». وتكاثرت الشكاوى مما يحصل في الكرنتينا من دفن للأموات وراء الأكشاك والأكواخ وتكاثر العقارب فلا يمر يوم إلا ويلسع إنسان (يذكر انه كان يوجد قرب الكرنتينا ميناء عرف بميناء العقارب).

وقد نظم أحدهم كافات الكوليرا تقليدا لكافات الشتاء التي نظمها الحريري فقال: 

جاء الوباء وقد باتت تقاتلهُسبعٌ تشد عليه وهو فتاكُ
كنسٌ وكلسٌ وكوردونٌ وكرتنةٌمع الكساد وكانونٌ وكونياكُ
أذاع شيخ الإسلام موسى كاظم أفندي عند تفشّي المرض سنة 1913 رسالة دعا فيها الى إقامة الصلاة المفروضة في جميع الجوامع والتكايا والزوايا وتلاوة الدعوات وقراءة سورة «الأحقاف» كما وزع بطاركة الاستانة مثل ذلك على أبناء طوائفهم والمثابرة على الصلوات والابتهالات.

الكوليرا تقتل أربعة والخوف يقتل ستة

يقول المثل: إذا وقعت المخاويف كثرت الأراجيف. من المتفق عليه أن الإشاعة تنتقل من فم إلى أذن وتكبر حتى يسيطر الوهم على الناس. وأكثر ما يتجلّى هذا الوهم في حالات الحروب والأوبئة وانعدام الأمن والإطمئنان.

روى الصيدلي أمين فاخوري إثر تفشي الكوليرا سنة 1908م رواية للتدليل على أثر الخوف في النفوس. قال: إن أحد الفلاحين خرج صباح أحد الأيام من قريته قاصداً المدينة لشراء بعض حاجات بيته. فرأى أثناء الطريق إمرأة مسنّة درديس قبيحة المنظر والمخبر، فراعه ما رأى من قبحها وسوء منظرها، فتعرّض لها سائلاً:

الفلاح: من أنت يا خالة؟

المرأة: أنا الكوليرا

الفلاح: أعوذ بالله منك ومن شرورك وأفعالك. إلى أين تقصدين يا سيدتي؟

الكوليرا: أقصد تلك القرية، وأشارت الى قريته.

الفلاح: وما تصنعين بها؟ 

الكوليرا: أَوَيلزم سؤالي أيها اللبيب، أما سمعت بي وعلمت بما أفعل.

الفلاح: لا تؤاخذينني يا سيدتي. سمعت وعلمت وفهمت ولكن أرى من واجبي ان أسألك بحكم ما جرى بيننا الآن من معرفة، وأعلمك بأن هذه القرية هي قريتي ولي فيها أقارب وأصدقاء، ألا يمكن أن تعدلي عن تشريفك وزيارتك لها؟

الكوليرا: إن دخولي إليها أمر مقدّر لا مفر منه، ولكن كم تريد أن أصيب بها يومياً؟ وإني على إستعداد لأن أفعل ذلك إكراماً لك ولصداقتنا الطارئة.

الفلاح: وكم تمكثين في القرية؟

الكوليرا: عشرة أيام يا صديقي الكريم.

الفلاح: هل تكفيك أربعة أشخاص يومياً؟

الكوليرا: سأفعل كما تريد.

الفلاح: الله يطول عمرك... آه نسيت، صحبتك السلامة... ولكن مهلاً إذا زاد العدد المعيّن الذي وعدتيني به، أين أراك لنتعاتب؟

الكوليرا: تلقاني في المنزل الكبير شرقي القرية.

رجع الفلاح حزيناً الى قريته، وانتظر الى المساء، فإذا المصابون أربعة. فقال في نفسه: قد وفت العجوز بوعدها.

وفي مساء اليوم الثاني سمع أن عدد المطعونين عشرة أشخاص. فذهب الى المنزل الكبير والتقى العجوز وعاتبها على إخلالها بالوعد الذي قطعته له.

فقالت: ليس لي أدنى علاقة بإصابة الستة الآخرين، بل كان ذلك من خوفهم ورعبهم.

فتركها الفلاح وعاد إلى قريته وصعد إلى سطح منزله ونادى بأعلى صوته:

يا قوم طالما تبتعدون عن الرذائل وتراعون صحتكم، فلا خوف عليكم. وها أنا تقرّبت من الكوليرا وتعرّفت إليها ولم تصبني بسوء.

-------------

* مؤرّخ