بيروت - لبنان

اخر الأخبار

6 حزيران 2020 12:00ص أيام بيروتية (24):ضبط الأوضاع في بيروت بعد سنة 1860م الطائفية

حجم الخط
من الطبيعي أن يتولّد عن النزوح الكثيف من الجبل الى بيروت ازدحام في طرقات المدينة ومرافقها وأسواقها وما يرافق الاختلاط من تفاهم حينا وتنافر أحيانا في زمن وظروف كانت الأعصاب فيه مشدودة بفعل التهجير الذي طال الأهالي والتدمير الذي حلّ في القرى والبيوت, ومن المتفق عليه ان أي إشكالا صغيرا أمكنه التحوّل الى نزاع كبير، فكان على الإدارة المحلية اتخاذ التدابير الضرورية تداركاً لتداعيات النزوح واللجوء والازدحام ومحاولة لاستباق أي حدث يمكن أن يؤثّر على السلم الأهلي ضبطاً للأمور وتقويما للسلوك من جهة ولقطع الطريق على استغلال القوى الأجنبية، على عادتها للخلافات الأهلية لمصالحها الخاصة، من جهة ثانية.

أصدر فؤاد باشا أثناء وجوده في بيروت عدة تعليمات لضبط الأمن. تولّى مجلس إيالة صيدا تنفيذها، ففي أيلول (سبتمبر) 1861م نشر إعلان في الصحف - على قلّتها في ذلك العهد - ونادى به المنادي في الأسواق حتى «الحاضر يعلم الغائب بنيّة الحكومة جلب جانب من مياه نهر الكلب الى بيروت وتقسيمه الى مواسير توزع على أنحاء بيروت» إلا أن المشروع لم ينفذ في حينه.

وكانت بيروت تعتمد على ضوء الفانوس لإنارة طرقها وبيوتها، وكان التجوّل بدون قنديل ليلاً مدعاة للشبهة وسبباً لتوقيف الفاعل. ففي كانون الثاني سنة 1861 قرّر مجلس الإيالة الكبير ومجلس التحقيق معارضة كل من وجد بدون قنديل من الساعة الثانية الى الصباح. وجاء في القرار «أن الضبطية لا تفرّق بين أهل العرض وبين مجهولي الأحوال ممن تجده بلا نور، فتحضر كل من تراه بهذه المثابة وتوقفه في السجن الى الصباح...».

وحذّر فؤاد باشا من نشر الأراجيف وتشويش الأذهان والمنازعات. وكانت قد حصلت منازعة قبيل قدومه بين عمال في كارخانة حرير وبعض أهالي البلدة، فصدرت تعليمات جاء فيها «لا يخفى أن الشغيلة الذين هم مستخدمون في كراخين الحرير وفي المحلات التي مثل هذه، أكثرهم من أهالي الجبل ومن الأغراب، فلذلك يصيرون سبباً لظهور أنواع المنازعات بأدنى وسيلة، فبعد الآن يلزم أن هؤلاء يكونون موجودين بحدّهم وأدبهم ولا يطوفون في محل ما بصورة الجمعية أبداً لا في الليل ولا في النهار ولا يترخص لهم أن يكون موجوداً بأيديهم سلاح أو غير الآت جارحة وعصي... وما عدا الضبطية وقناصل الدول المتحابة، فكافة أهالي البلدة والمسافرين على العموم لا ينقلون أسلحة لا ليلاً ولا نهاراً وكل أحد ملزوم أن يتجنّب التفوّهات والمقالات غير اللائقة الموجبة تحريك عرق هيجان عموم الأهالي. ولا أحد في أي وقت يقوّص أبداً بالليل والنهار لا ضمن البلدة ولا في المحلات التي خارج البلدة ولا فيما بين البيوت والبساتين».

وتنبّه التعليمات الى ان «كل من يتفوّه بكلمات غير لائقة موجبة للضرب والشتم وتحريك النزاع، وينوجد بحركات غير مرضية مماثلة لذلك، يصير إجراء مجازاته اللازمة بدون مسامحة ومن دون رعاية خواطر».

وفي تدبير مشابه لما أصبحنا نشهده في بعض الدول من قيود على عمل الأجانب تقرّر «ان الموجودين بالصنائع والحرف من الغرباء مثل الفعلة والقهوجية والذين ليس لهم كار أو صنعة من أهل الإسلام والنصارى يصير ربطهم على كفلاء أفرادا توفيقا للعادة المرعية بأنهم ينوجدون في حدّهم وأدبهم ويتجنّبون الحالات التي توجب أدنى قيل وقال».

وشدّدت التنبيهات مع الوصايا المشتملة «على لزوم وجود عموم الأهالي في حدّهم وأدبهم بالحب والائتلاف الكامل بعضهم لبعض، وعلى أن يصير إعلانها لكل أحد علناً في الجوامع الشريفة والكنائس والى وجوه الإسلام والنصارى ورؤساء الملل والأئمة والمختارين ومشايخ الحرف وكافة من يلزم...».

يذكر أن والي صيدا (وبيروت ضمناً) أحمد باشا القيصرلي (قد يكون من بلدة قيصره التركية الشهيرة بجبالها التي جعلت منها مركزاً للتزلج) أصدر عدة تدابير تنظيمية سنة 1861م لبيروت مدعوماً من فؤاد باشا. منها وجوب حمل النور على من يسير في الأسواق ليلاً ومنع لعب القمار في أماكن الاجتماعات العامة والتحذير من السب والشتم المخلّ بالدين والناموس ورتّب فرقة خاصة لضبط المخالفات ومراقبة المقاهي والتزام أصحابها بمواعيد عملها.

حفظ الآداب العامة

ويلفت النظر الإعلان الذي نشرته الحكومة سنة 1864 وجاء فيه «انه في جميع الأديان والمذاهب شتم الدين والناموس والتفوّه بالكلام الغليظ المنافي للديانة والمخلّ بالآداب والإنسانية هو أمر حرام ومذموم، فقد سمع انه بهذه الأوقات البعض في مدينة بيروت دائما يتفوّهون بالسب والشتم والكلام غير اللائق ولذلك وُجد لازم فرض تأديب الذين يتجاسرون على الكلمات القبيحة المغايرة للشرع والقانون. فبعد الآن إذا سمع ان أحداً تجاسر على السب أو الشتم المخلّ في الدين والناموس ولو من أية طائفة كان فيصير إجراء مجازاته المعينة قانونا. فلأجل أن يكون ذلك معلوم الجميع ولا الحذر من التفوّهات غير اللائقة صار تعليق هذا الإعلان».

ويذكّرنا الإعلان الذي صدر عن الحكومة السنية سنة 1865 بما كنا الى زمن قريب نشهده على بعض جدران مدينتنا فقد جاء في الإعلان «حيث ان البعض بمرورهم وعبورهم يبوّلون على الحيطان ومن جريان البول في الأسواق وممر الناس يحصل تعقبات ردية مضرّة على الصحة العمومية وكذلك وضع زنابيل وسحاحير وغيره أمام الدكاكين والمخازن يحصل منها صعوبات على المرور فقد ترتب ضبطية مخصوصين لأجل مراقبة هذه الأمور، فبعد الآن الذين يبوّلون على الحيطان بالأسواق والأزقة والذين يضعون صناديق وزنابيل وغيره في الطريق أمام دكاكينهم ومخازنهم يتحصل منهم جزاء نقديا توفيقا للقانون ولأجل ذلك صار تعليق هذا الإعلان...».

وأصدرت الحكومة سنة 1861 تعليمات لمناسبة شهر رمضان جاء فيها «حيث انه في شهر رمضان تفتح الأسواق بالليل فيلزم ان جميع الأهالي يكون جولانهم بالأدب والاحتشام من دون أدنى منازعات من الواحد مع الآخر لا بالليل ولا بالنهار وكل أحد يكون في شغله وعمله ومعطاة أسباب معاشه وتجنّب كل حركة موجبة للخصام والنزاع وكل من يتجاسر على أدنى حركة خارجة عن حدود الأدب بحق كائن من يكون يجري بحقه التأديب اللازم الخ...».

وتنظيما لممارسة مهنة الطب أصدرت الحكومة سنة 1861 إعلانا قالت فيه «ان الأطباء الذين لا يوجد بيديهم شهادات من المدرسة الذي تعلموا بها ولا رخصة من طرف الحكومة يقتضي حالا أن يحضروا لمجلس التحقيق لكي يجروا الفحص وتعطى الرخصة لمن يوجد به لياقة وكفاءة لهذه الصنعة ويمنع القاصر عن هذه الدرجة وقد أعطيت مهلة خمسة عشر يوما فالذي يتوقف عن الحضور بعد أن تمضي المدة المذكورة وبلغ الحكومة انه أعطى علاجا لأحد ولو مهما كان جزئيا حالا يصير جلبه وإجراء قصاصه بموجب القانون نامه الهمايوني من دون توقف دقيقة الفرد فلكي يكون معلوما عند الجميع الخ...».

ومما هو جدير بالذكر انه بدأ في شهر نيسان سنة 1862 وضع أنفار مسيحيين في صف الضبطية بناء لطلب والي الايالة، كما أعلن أنه «لما كان من العادة في بيروت أن ينصب في فسحة خارج البلدة (فسحة ساحة عصور - ساحة رياض الصلح حالياً) قلابات ومراجيح لتسلية الأولاد في أعياد أهل الإسلام لتنزيه أولادهم فقد صدر أمر حضرة صاحب الدولة أحمد باشا والي ايالة صيدا نصب المواد المذكورة في عيد المسيحيين أيضا فجرى ذلك في أيام عيد الفصح وكان ابتهاج أولاد المسيحيين عظيما حيثما تنزّهوا داعين بحفظ وجود دولته».

 * مؤرخ